ثُمة حاله يصنعها جنوبيو مصر حول حياتهم..قصص ومُعتقدات وقناعات..أعراف وتقاليد وسِير شعبيه لأبطال..كالفراشه تغوص في النور لتحترق !!!

#القِمْرِيَهْ

أيها الإله الحي باديء الحياه

البعيد المُتعال

مُشرق الشمس على وجوه الناس

مانح الحياه للجنين في بطن أمه

تهدهد به طفلاً

وتسكن روعه فلا يبكي

وتفتح فمه وتعلمه الكلام

هدئ من روع الباكِ

ولا تظلم الأرمله

ولا تحرم إنساناً عطف أبيه

ضاعف لنا الخبز وقدير تدابيرك يا سيد الآبديه

"كلمات من مناجاه وإبتهال أمنحتِپ الثالث للإله الواحد

الحاكم التاسع بالأسره الـ 18 في مصر القديمه" ..

______________________________________


لإعتقاد ومورث شعبي قديم

كانت قد اوصت جدتي القرويه الصعيديه

" نبيله في ورق الحكومه وينادونها بدريه "

بأن يُلقى بـ "مشبك حبلي السُري" بأحدى كُليات الجامعه داعية الله ان يجعل لي نصيباً وحظاً وافراً في التعليم .. تعتقد بأنني لن احصل على فرصه للترقي الطبقي

سوى من خلاله ..

فنحن فلاحون اباً عن جد منذ فجر التاريخ ..

وإيماناً منها بأن لكلاٍ من إسمه نصيب

تخوض معركه جلل مع موظفو السجل المدني لإقناعهم بتسمية حفيدها "خديوي" وتشتبك مع ضابط السجل المُقدم (آنذاك) خالد غلاب وتصيح قائله : متخافوش ماهيخدش رزقكم يا حكومه ده وِلد حلال وقدمه طيب ..

تتوالى الأيام وهي في إنتظار ان تشهده طالباً جامعياً

يرتدي (البنطلون والقميص) وهي بمثابة علامه ووسام

لنيل الولد لقب أفندي في إعتقادها ! ..

لشهرتها ذائعة الصيت آنذاك بأنها (مبروكه)

فلا تخشى الثعابين والدفان والورل النيلي والعقرب الزراعي

وابو الحصيني (الثعلب المصري)

كانت تمارس التمريض بالطب الشعبي البسيط

بطريقة مُعالجة كسور العظام مثلا بجبيره تصنعها

من البيض والدقيق معا !! ..

يوماً ما أتت عمتي (مي) في زيارة للقريه بمناسبة إقتراب عيد الأضحى رفقة أولادها (ولدين وبنت) وإستناداً على ذاكرتي ما لم تَخُني تقع احداث هذه (الحدوته المصريه) بقريتي بجنوب مصر الرهيب ..

منذ الفجر كانت قد أعدت مُتطلبات زيارة إبنتها القادمه من العاصمه القاهره من العيش الشمسي والضلي (المرحرح)

والشلولو (الملوخيه الخضرا الصيفي نُخزنها بعد نثرها لتهويتها ومن ثم قطفها وحفظها)

وقامت بذبح الديك الرومي (اللي حيلتها) وللتو إنتهت من الطهي وتهيأت للجلوس على عتبة البيت الريفي

العتيق (حيطانه أغلبها من الطوب اللبن / الأخضر)

تلطق أنفاسها وهي من تجاوز عُمرها الستين

ممسكةً بـ (كوباية الشاي اللتي تُميزها)

عند جلستها هذه وصاحت :

تعالى وبزيداك لعب لاجل ما تروح المحطه تستنظرهم

لم اعيرها اهتماماً وأكملت لعبي بعربتي (قلاب الرمل) كنت قد صنعته من كوز صفيح وبعض المسامير وخيط دوباره

عتيد .. قامت لتتحرك بإتجاهي وقالت : لو رحت

تستنظرهم على اول البلد هديك تجيب الحلاوه ام كاكاو

يا ولد ولدي .. كُنت أصدقها (عمياني كده)

ركضت نحوها وترجيتها ان تعطيني (الشلن) حتى احصل عليها وانا في طريقي

للمدخل القبلي للقريه,اعطتني إياه وقالت في حزم : إوعاك تتوه , الوقت زحمه وخلق كتيره معاوده من المحطه

(تقصد المدينه) بالتيوتات (جمع تويوتا , ماركة سيارة الربع نقل اللي تقلنا من القريه للمدينه والعكس) ..

إتخذت مكاني برفقة اصدقائي عند مدخل البلد القبلي مترقباً مجيئهم .. كانت المره الأولى اللتي سأراهم فيها

لكنها حدثتني عنهم كثيراً وعن إرتباط أولادها كلهم

ببعض كـ كف اليد الواحده لكن (الدنيا وعمايلها) وسعيهم

على معايشهم فرقهم مؤقتاً (كان أبويا في الخليج وقتها) وأقيم معها لترعاني او أرعاها , او نرعى بعضاً سوياً

(فقد كنت أمسك بطرف توبها وأتبعها وهي ضعيفة النظر

ولا أدري لوقتنا هذا ، من كان منا يرشد الاخر لطريقه) ..

وصلوا (الضيوف) اللي في مقام أصحاب البيت وقد ميزتهم حقائبهم وعددهم (دي عمتي وادي واحد , اتنين , تلاته) يبقى هما صح , إنطلقت سيارتهم مُسرعه وكأنها تعرف طريقها دون الحاجه إلي , لماذا أرسلتني إذاً ؟؟!

تضجرت وعُدت للبيت (خجلان) خجل الأطفال عند مقابلة احدهم للمره الأولى ..

عُدت ومُخيلتي تجول بها الأسئله كما تجول الخيل بالمرماح الصعيدي القديم قدم الأزل .. ادخل الدار على اطراف اصابعي واتحسس مواضع قدمي من الخجل .. اسمعهم

يتحدثون .. اتنصت عليهم واختلس السمع .. لا افهم شيئاً مما يقال سوى (إتوحشتك يا أمايَ) .. أدخل مُسرعاً أرتمي بكل ثقلي في حجر جدتي بدريه مخبئاً كلتا عيناي

بطرحتها السوداء الكلاسيكيه .. تقول : وه ! خجلان عاد ؟! وي عليك .. عاد حوش يا واد الخجل وتضحك,سَلم على عمتك وعيالها .. تدور عيناي بالأرض كـ بلياتشو مسرحي يستعد للكشف عن وجهه لجمهوره , تُباغتني النظرات من كل حدب وصوب .. متوجساً اُهم برفع وجهي وعيناي عن الأرض مُسنداً بكلتا ذراعي بحضن جدتي مُتلفحاً .. تمد عمتي يدها : كبرت يا واد وكأنك ماعارفنيش !

اتقدم بضع خطوات اصافحها بحرصٍ شديد واتراجع سريعاً لقيد خجلي .. تتسائل

جدتي : قال ؟ ماتعرفاش يا شقيقي ؟! .. اتجاهل الرد واجول بعيناي حول اولادها

لم تبدو ملابسهم مألوفه بالنسبه لي , ألوانها ورسوماتها تثير إعجاب الطفل القروي الذي لا يعرف سوى (الجلابيه) زياً رسمياً للكبير والصغير .. بدأت أشعر بالهدوء

حين تقدم احدهم وكان يكبرني ببضع سنوات

ليسألني (بلكنة قاهريه) ازيك يا خديوي

قلت : زين الحمدلله .. كانوا يصطحبون ألعابهم معهم , لم أميزها كونها بضاعة محلات ألعاب الأطفال بالمدينه لكن أعجبتني وادهشتني كونها تُطلق أصواتاً بضغطة زر واحده !!

تعود عمتي لتسألني بعد وشوشه طويله بجانب جدتي : كيفهم ابوك وأمك يا خديوي ؟ تكلمهم؟ , قلت متعجباً سؤالها (بنبره مُتعصبه مُندفعه) : هما هناك في بلاد الخارج

وأشرت للسماء مُبتسماً من الطاقه (النافذه الطينيه) هروح اجيبهم من الطياره ونروح كلنا مع بعض صلاة العيد !

ارادت ان تقاطعني لكني لم أمهلها وأكملت :

أبوي جابلي قطر بالكهربا كبير قوي عشان سمعت كلام الجده وبطلت اتسبح في المجرايه (كنت اكذب بالطبع)

وجدتي تعرف ذلك لكنها فضلت الا تفصح عن (جرائمي ومغامراتي أمامهم) ..

قامت عمتي برفقة جدتي للتحضير وغرف الأكل ووجدت نفسي أمام الاولاد الثلاثه وحيداً .. أشعر بأنهم غُرباء عني وعننا في هذا المكان (لهجتهم وألوان ملابسهم

تدل على ذلك) .. اذهب حيث طبلية الأكل وأضعها على الحصيره واتخذ مكاني المفضل (بجانب جدتي طبعا)

اللتي تقول : كُل يا خديوي كُل يا شقيق عُمري

وكأنها تناستهم ! .. يدور حديث جانبي بين عمتي وبينها تقطعه البنت (روان) موجهة حديثها الى جدتي : تيتا انا عايزه من ده وتشير لطبق السلطه البلدي باللمون

(والحياق من الملح والكمون) , انظر إلى جدتي واعاود النظر الى روان مرات ومرات

ثم أسألها غاضباً : كيف تقولي لجدتي تيتا يا بت أنتي ؟؟!

تضحك جدتي وتقول : دي مش شتومه يا جدتي , شوفت خليتها بكت عاد ؟!

تجاهلتها وتجاهلت بكاء روان وأكملت رغيفي

وقمت متضجراً (الغيره على جدتي يبدو وأنها أوقعتني في شر أعمالي) ..

بعد الغداء أتيت لهم ببعض الحلاوه الكاكاو (عشقي آنذاك) واعطيت روان

اول واحده وقلت : الجده ماسمهاشي تيتا يا روان ماشي ؟

ضحكت مع اخويها وأُعتبر ذلك صُلحاً ضمنياً بيننا .. دار بيننا الكثير ذاك اليوم

اخذتهم في جوله بالركوبه (الحمار) صوب تفريعة النيل

اللتي تطوق قريتنا

كانوا خائفين من الركوبه والناس والشوارع والنيل وطوب الأرض !

حتى وصلنا شريط السكه الحديد من الجهة الأخرى , قلت : الأرض اللي هناك دي

بتاعتنا اجيها انا وجدتي الصبح ونروح مع المغرب (في زهو وإفتخار مُتقمصاً الرجل المُستحيل) .. قبل المغرب اصطحبهم حيث اصطاد الطير القمري (نوع من الحمام)

برفقة اصدقائي من جيراننا .. مكاناً قريباً من الجبانه (المقابر) .. الآن

معي النُبيطه (النِبله) وقد جمعنا الحصى الكافي للصيد , رحت اتنقل لأتخذ مكاني

بين البوص الكثيف مُراقباً واحده من القِمري , إنزلقت ساقي عند عبور حوض مياه

لأسقط مكسوراً , لم أعي أي شيء لحظتها .. بالليل أدركت نفسي ومن حولي قليلاً

كانت قطع القماش تلتف حول ساقي في ترابط عتيد وقوي وكانت جدتي تضع رأسي في حضنها وتغطيني بطرحتها الكلاسيكيه وتدق برفق على ظهري (تُهنني) وهي تُنشد أو تُعدد حزناً (لم أتبين ذلك) كان صوتها يُعطي نبرة المعنيين في آن واحد " وأنا ريته جاي من هِله , وجماله تُجر الغله , قلتله يا خديوي إتدلى , قال شبعان يا جده ومتغدي .. وأنا ريته جاي من بعيد , متسوق فرحان بالعيد , يارب تزيح عنه الغيت (الحزن) , يتسوق وياجي لجدته "

كُان النوم يتسرسب إلي مع كلمات إنشادها ويُهدهد مُخيلة أحلامي الكثير من الصور المتتاليه (أبي وأمي في بلاد الخارج البعيده , الطائره في عنان السماء وأنا أناديهم كلما مرت من فوق سطح الدار وأشير إليهم لإعتقادي أنها تحملهم إلي , القطر اللي بالكهربا , جلابية العيد التفصيل , تكبيرات العيد وصياح الديكه , صوت القمري , النبيطه , الجبانه وصوت زمارة القطر , زرعة القصب , المجرايه , الورل النيلي المختبيء في الجزيره وسط النيل الذي افزعته وافسدت عليه وجبته وصوت الفحيح الذي اصدره دفاعاً عن نفسه

عندما ركضت وراءه ذات يوم " ..

___________________________________________


** بعد إستلام جواب ترشيح التنسيق (بجامعة اسيوط)

مررت بالجبانه مُرتدياً (البنطلون والقميص)

دخلت لرحاب جدتي بدريه #النبيله (المبروكه)

مُبشراً إياها بالنتيجه (وتحقيق حُلمها) واضعاً (جريد نخل أخضر) فوق مقامها

مُنشداً (وانا ريته جاي) حتى جاءت أسراب الطير القمري تموج فوقناً وتطلق صحياتها بالترحيب والتغريد والتهنين ❤ ..


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

جميلة جدا يا خديوي.. و مستني البقية

تدوينات من تصنيف محتوى أدبي

تدوينات ذات صلة