حياة بطعم السواد، وروح غزتها القتامة فصارت تعيش موتها وهي حية ترزق وتمشي في الأسواق
اعتدت الاستيقاظ على نفسية مهتزة وحزينة، واليوم وجدت الجسد أيضا يؤازرها، غالبت الغثيان فترة إلى تناولت فطوري ودخلت الحمام الشعبي بجوار بيتي، على أمل أن أزيل أدران الجسد والروح دفعة واحدة. لكن الغثيان قضى مأربه وأفرغ لي معدتي دفعات متتالية وبإصرار فارس مغوار.
لطالما أيضا اعتدت على نفسية ثائرة متمردة، تنتفض في وجهي كل حين، وألام على كل فعل فضيل أو مشين، لكن اليوم الجسد أيضا يرفض السجائر، والقهوة ويرحب بالماء ترحيب عاشق لمعشوق، ويخرجه بعد حين من كل مسام جسدي كطرد أهل البيت لمتطفل حقود.
أظل طوال الأسبوع منتظرا يوم الاجازة هذا لأحقق وأتحقق من قضاء مآربي الشخصية، وما إن أستيقظ صباح الاجازة حتى أجد نفسي دون مآرب ولا أهداف ودون وجهة ولا غرض، حياة فارغة إلا مني. القراءة منهكة والكتابة مضنية والبحث الأكاديمي جاف وتجريدي محض لا يلامس الواقع إلا في نزره القليل، فأي الأغراض أقضيها في يومي الخاص والوحيد على طول الأسبوع هذا؟
لقد دامت هذه الحال أزيد من سنتين أو ثلاثا، أجد نفسي اليوم أنتظر فرجا لمحنتي، وخلاصا من ألمي المجرد أيضا، فقتامة ما بداخلي تدميني وتبكيني بكاءا خفيا لا تلمحه عين، يجثم على صدري شبح ما أخوض ضده معارك حقيقية لأستنشق هواء منعشا، عيناي أيضا تعشقان الظلمة وسواد الليل، هذا الليل الذي يعيد لي بعضا من سكينتي وهدوء روح بديعة، تكون (ويا للمحنة) أول ما أفتقده كل صباح.
ما هكذا كان الشباب الذي تصورته، أين الحماسة والجسارة وكل الورديات التي تغنى بها الشعراء، أين كل الذي قرأناه في الروايات والقصص والأفلام، ما منزلتي أنا من شبابي؟ كائن بشري في الخامسة والعشرين من عمره، من العمل إلى البيت ومن البيت إلى العمل، أحافظ على وحدتي، وسكوني يشترط ذلك ضرورة لا رفاهية!
أغوص في ذكرياتي وكأني عشت حياة كاملة في طفولتي، ألوك ماضيي وكأني ألوك علكة لا تفقد طعمها، طعم مر كالعلقم مرة وحلوة كثمار النخيل مرة، وعلى قدر ما أذكر أني ما عشت ما يسر ويبهج (حتى فيما مضى) لكنه الأن يبدو وكأنه الاحتمال الوحيد المتحقق عندي كحياة سعيدة.
والأحلام هذه الكلمة الملتبسة والغامضة، تراودني يقظة فقط، فالنوم عندي توقف عن التفكير واسكات صريح وحقيقي لضمير يعاتبني على كل صغيرة وكبيرة، النوم إجازة من الحياة نفسها أغبطه وأتمتع به دون غيره من الأمور، فلم يعد هناك شيء يمتعني ويشغفني فعله سوى هذه الراحة التي أغوص فيها إلى آخرها وأزيدها ساعات ليست باليسيرة في فراشي بعد أن يكتفي منه جسدي.
تنفتح عيناي، أرى سقف هذه الغرفة المألوف وروحي البئيسة أيضا، منكمشة على نفسها تتدثر بحزنها الأبدي (على ما يبدو). تنسل يداي من تحت فراشي وتشغلان أي شيء على الحاسوب وتغوص عيناي وآذاني فيه دون سابق رغبة ولا قرار.
بئس الحياة هذه، وبئس الممات بعد هذه!
بئس الحياة هذه، وبئس الممات بعد هذه!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات