تأملات في الموت و الأنانية و الجحود و اللا مبالاة و نظيرها من الأمل و الحياة و التضحية في زمن الكورونا.
نألفُ الحيَاة بخطوطِ سيرهَا حتّى تتراءَى لنَا النّعمُ مِن المسلّمَات، فترانَا نتأفّفُ مِن رتابةِ يومنَا، وَ هكذَا كانَ يومُ إعلان حالةِ الطّوارِئ.
كانَ يومًا كباقِي الأيَّام؛ حتَّى أتَى خبرٌ لمعلّمتنَا أَنْ تلتحقَ بالإدارَة للضَّرورَة، فتعودُ أدراجهَا بعدَ بضعٍ منَ الوَقت؛ ترمِي نظراتهَا الحائرَة بيننَا مُحاولةً التّشبّث بالقّوَّة كعادتهَا، لتقولَ بصوتٍ فيهِ منَ الحيرةِ مَا يخبرُ أنَّ الأمرَ جلَل: "اليَوم سوفَ نغادرُ باكرًا وَ لكِن أريدُ منكُم جمعَ كلَّ كتبكُم منَ الخزانةِ تحسبًّا لأيِّ ظَرف".
فعلنَا مَا طلبتهُ معلّمتنَا، وَ قَد ملأَت البهجةُ قلوبنَا؛ فمَا نحنُ إلاَّ أطفاَل تُفرحهُم إجازةُ المدرسَة أَو حتَّى مُغادرةٌ مُبكِّرة، ولكِن مَا لَمْ نختبرهُ هوَ مَا وراءَ الخبَر!
مرَّت التّرتيباتُ سريعًا وعدنَا لبيوتنَا وَلَمْ يكُنْ وَجه أمِّي الَّذِي ألفتُه، وَإنّمَا كانَت تعلوهُ ذَات الحيرةِ الّتِي رأيتهَا علَى وجهِ معلّمتِي وَ كأنّهمَا اتّفقتَا علَى ذاتِ المُحيَّا!
اعترانِي الفضولُ فسألتُ أمِّي: مَا الّذِي يُقلقكِ!؟ أجابَتْ بصوتٍ خافِت ومرتبِك: "إِن شاءَ الله خير!"
تُرِكَتِ الأشغالُ منَ الأهلِ علَى غيرِ العادَّة وتهافتَ الجميعُ علَى نقلِ الأخبارِ كتهافتهِم علَى التّموِين، وتبادرَت إلَى ذهنِي قصصُ الغولِ و الوحوشِ المجهولَة و قَدْ تحوَّلَت إلَى واقِع، وَ أنَا أشهدُ هلَعَ الكبارِ و خوفهُم وسطَ إعلانِ الحظرِ العَامّ؛ مصطلحٌ صغِير وَ لكنَّهُ دخِيل، ثقيلٌ علَى اللّسَان، منبوذٌ منَ القَلب، كاسرٌ للرُّوح، مخيفٌ لدرجةِ التّجمُّد.
ترنَّحَت أفكارنَا بينَ عواصفَ هزَّت كيانَ والديَّ و بينَ نوعٍ منَ الغبطةِ بداخلِي فمَا أنَا إلاَّ ذاكَ الطّفلُ الَّذي فرحَ لعدمِ القيامِ باكرًا للالتحاقِ بمدرستهِ غيرَ آبهٍ بالآتِي. و لكِن يمرُّ اليَوم و يمرُّ بعدهُ الثّانِي و أبدأُ بفقهِ مَا فقههُ والديَّ حينَ الخبَر.
مزيجٌ ركِيك بينَ الخوفِ منَ المجهُول وَ الشّعورِ بألمِ الوحدةِ و العزلَة؛ شعورٌ أختبرهُ لأوّلِ مرَّة، مَا الّذِي يجرِي بالعالَم!؟ أرقامٌ تُذاعُ علَى الشّاشَات لأرواحٍ فُقدَت و قَد كانَت بالأَمس ذاتَ وجودٍ لأحبّاءِهِم، لَا مواسَاة لهُم، وَ لَا قُبلة وداعٍ أخيرَة، وَ لَا حضنٌ يطفئُ نارَ الفراقِ.
آخرونَ باتُوا كذلكِ أرقامًا تتألّمُ تحتَ أجهزةِ التّنفُّس بدونِ مُحبٍّ يُمسكِ بيدهِم، ليستشعرُوا قوَّةَ محبِّيهِم علّهَا تُشفِي عليلهُم و تسرِّع شفاءهُم.
تُواصلُ الأرقامُ حضورهَا و شدَّ انتباهنَا مقرونةً بالأخبارِ المحزنَة، المفجعَة، المخيفَة، المحيّرَة و النّفسُ فاضَت بالدُّعَاء أنْ يكونَ الرَّقَمُ صِفر حلّ ضيفنَا و لكِن أبَت أن لا تكونَ الإصابَاتَ إلاَّ بالآلافِ هنَا و هناكَ بالأطرافِ الأخرَى منَ الكوكَب.
و فِي وسطِ كلِّ هذهِ الغمامَة أستشعرُ فجأةً كينونةَ العالَم، فلَمْ تعُد للهويَّةِ وقعٌ، وَ لَا للّونِ أهميَّة، و لَا للهيمنَة الإقتصاديّة هيبَة، و لَا للدّينِ حضُور، و باتَت الكورُونا هِيَ الحكمُ، و الجلاَّد، و المفرِّق، و المجمِّع؛ فهيَ مَنْ تمسكِ بخيوطِ اللّعبَة كلِّهَا حتَّى أنَّك تعجزُ عَنْ فهمِ مشاعرَك تجاههَا ليتسابقَ العالَم نحوَ حلّ لغزهَا الّذِي حبسَ الكوكَب و أصابهَ بالشّلَل فباتَ صامتًا خاوِيًا علَى مَا كانَ صاخبًا موحشًا حدّ غربةِ الذَّات عَن الجسدِ، كئيبًا أعمَق مِن أيِّ معزوفةِ حزنٍ عُزفَت مِن قَبل.
حيرةٌ هزَّت العالَم حتَّى باتَ مقهورًا يواجهُ وحشًا لَا مرئِيًّا. وهَا أنَا ذاتَ الطّفلِ الّذِي فرحَ بخبرِ اللَّا مدرسَة اللَّا نهوضَ باكرًا إليهَا، يعتريهُ الخَوف والاشتِيَاق إلَى سابقِ روتينِه الَّذِي ظنَّه مملًا، مجرد يومٍ نجتمعُ فيهِ مَعَ الأصحابِ نضحكُ، نلعَب، نستهزِئ، نتعلَّم، نختلِف علَى نتيجةِ مباراةِ كرَّةِ قدمٍ لعبناهَا، نجلسُ سويًّا بدونِ حسابِ مسافاتِ التّباعُد، نتأمَّلُ ملامحَ بَعض بدونِ أقنِعَة وكأنَّ بهذَا البديهيِّ يتلاشَى ونُنذرُ ببداياتٍ جديدَة جامدَة بلَا رُوح.
آلمنِي فيمَا آلمنِي صديقِي الَّذِي حُرمَ رؤيةَ والدتهِ الطَّبيبَة الّتِي أخذَت علَى عاتقهَا كمَا باقِي الجَيشِ الأبيَض محاربةَ هذَا الوَحش المجهُول؛ في خوضَ غمارِ حَربٍ معَ عدوِّ مارِق. إِذْ يجتهدُ صديقِي فِي كتمانِ غضبِه و مدارَاةِ خوفِه علَى أمِّهِ وَ علَى نفسِه. فَأَن تفصلكَ جدرانٌ اسمنتيَّة عَن مَن تُحبّ دونَ ملامسةِ وجهِه أَوْ مسحَة علَى الرّأسِ أَوْ حضنٌ يطفئُ شوقَ البعدِ ويُخفتُ خوفكَ؛ تلكَ قسوَة لَا تضاهيهَا أخرَى!
و فِي خِضمِّ الزعزعةِ و البلبلةِ و زهقِ الأروَاح، بقينا متمسّكينَ بالحيَاة. أصبحنَا نرضخُ لفكرةِ المَوتِ و الفنَاء، فصرنَا نتبسَّم للحياةِ بحلوِّها و مرِّها.
لكِن، بات السُّؤالُ يَا عزيزِي القارِئ، هلْ كانَ علينَا المَوت لنتراءىَ النّعم الَّتي ألفناهَا علَى أنَّها مسلّمَات؟! أَمْ أنَّ الموتَ تداركنَا ليبصرنَا؟
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
مذهل يا جعفر! ماشاء الله عليك.. تملك أسلوبا لا يملكه الكثير من المؤلّفين الذين صاروا يظهرون بكثرة هذه الأيام.. أتمنى لك مستقبلا باهرًا، وهو كذلك بإذن الله👌🌸 استمرّ بالكتابة، فقلمك مذهل وتنساب الحروف منه بكل رقّة..🌸