هُنا حَيثُ الحَج في دَلالاتِه لا يَقِفُ عَلى حَملَة تَصاريح الحَج!



بَعد غُروبِ شَمس سَبقت فيها الأرضُ حُمرَة السّماءِ بِلونِ الدّم، وفَرت الغَيمات لسماءٍ صافيَةٍ كمرآةٍ تعكِسُ وجهَ الأرض الدامي، نَزلَ السّوادُ، وخيّمَت الظُلمَة عَلى أقوامٍ لا يُجيدونَ مِن اختِراعِ الكَهرباء إلا اسمَها لاستِمرار الحِصار أو لِغربَة الوطَن!.


ثُمّ في خواتيم اليأس أشرَقَ القَمر كَقميصِ يُوسُف عَلى وجهِ أبيه، بُشرى بأنّ الظُلمَة ستنجَلي وإن تَعاقَبت. أشرَق إشراقاً لَم يَسبِق له بِبهاء طَلّته، واكتمالِ نورِه وبَدره، كَحاجٍ تَطَهرَ مِن كُل دنَس، وسار في طَريق الله.


فَناظَرتُه بالعَين، ودَنوتُ مِنه باللسان مُسبّحاً؛ حتّى خُيّل إليّ أنه يُناظِرني بأصغريه، فَعاينتُه بَعدَ طول غِيابٍ بالمِنظارِ فلاحَظتُ احمرار وجهِه خَجِلاً، واستَمرّ إلى اللحظة التي غابَ عَن عينِ الرّصاد؛ إلا عَين بَشرٍ اعتَادَت الحَديثِ إليه حينَ يَغار القَمَر!


فَبَعدَ طولِ بُعدٍ، وليالٍ مِن الجَفا بانقِطاع المِداد عَن حَديثِ القَمر، اقتَربتُ مِن العيدِ باعاً لأدنو مِن القَمرِ ذِراعاً؛ مُشتاقاً للكلامِ المَتلوّ مِن سَنا بَريقِه، مُستأنِساً بِثباتِه في سَقفِ السَما!

فابتَدأتُه بالسَلامِ: سَلامٌ عَليكَ يا وجهَ النَبيّ ليلَة بَدرٍ، فأجابَني عَلى مَضض: صَلى الله عليهِ وسَلّم.

وناشَدتُه وسطَ الحمرَة: أي الإشراقِ إليكَ أحَب؟

قالَ: ليلُ رمَضان ففيهِ ليلة القدر، وأيام العَشر من ذي الحجّة إذ فيها خير أيام الله وخَير ضيوف بيته!


قُلتُ: أتَعرِف فَضل البيتِ وأنتَ في سَماءِ الله؟

قال: ألم تَقرأ في الدرر المَنثور قولَ جَعفر بن محمّد عَن أبيه أنّه قال: لما قال الله عزّ وجَل للمَلائِكَة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" غَضبَ عليهِم، فعاذوا بالعَرش فَطافوا حولَه سَبعَة أطواف يَسترضونَ ربّهم، فَرضيَ عنهم وقال لَهُم: "ابنوا لي في الأرض بيتاً يتعوذ به كُل من سَخطتُ عَليه مِن خَلقي فيطوف حَوله كما فَعلتم بِعرشي فأغفِر له كما غَفرتُ لَكم" فَبنَوا هذا البيت.


أمّا حَجُره الأسودُ فهوَ ياقوتَةٌ مِن يواقيت الجنّة، أنزلَه الله إلى آدَم عليه السلام بعدَ أن هَبطَ مِن الجَنّة، وتوقّد في قلبه الشّوق إليها، فأخذه آدَمُ عليهِ السّلام، فَضمّه إليه استِئناساً به، فقالَ النّبيّ محمّد صلى الله عليهِ وسلّم: "نزَل الحَجرُ مِن الجنّة وهوَ أشَدُّ بَياضاً مِن اللبن، فَسوّدته خطايا ابنُ آدم".


قُلتُ: ألم تأخُذكَ غيرَة من شَوقِ أبينا فَتَحُجّ إليه؟

قال: بَلى، وما حيلَه المَحبوسِ في بيتِه يَتمنّى الحَجّ ولا يَصِل، ما قيمَةُ الشَباب الذي يَحولُ بينَك وبينَ تَصريحِ الحَج !، كَذلكَ صاحِبُ المَداراتِ يَغارُ مِن حَجيجِ الله غيرَة مُشتاق.

الشّوقُ قَديمٌ يَومَ أن نادَى إبراهيم عليه السلام بأمر ربّه وبلّغ الله عنه، فسمعه مَن بين المشرق والمغرب، فأجابوا مِن أصلابِ الرّجال وأرحام النّساء: لبيكَ اللهُم لبيّك؛ حينئذٍ لبّى كُل رطبٍ ويابِس!


فأخذني مِن الحَجّ هيئَتُه فَسألتُه مُقاطِعاً، أحجَجتَ بَدراً أم مُحاقاً ؟، كَيفَ لبيّت؟، وبأيّ فَلكٍ طفت؟، وبأي وسيلَةٍ بَلغتَ زَمزَمَ الأرض؟

فَأوقفَ ثَرثرتي نَحوَ ماورائيّاتِ الحَج، وقالَ هَلُمّ بِنا نَحُجّ بيتَ الله؛ كُلٌ مِنّا في فَلكِه، فنُسافِر في خَفاياه، نَتجاوَزُ ظاهِرَه إلى مَقصِده، نَستَمتِع بِقَشعريرَة النّداء الربّاني الذي أمر بِه نَبيَ الله إبراهيمَ عليه السلام، فَنَفِرُّ مِن أنفُسَنا إلى الله، ونَبدأ بِحرفيه ليكونَ الحاءُ بِساطاً يحمِلُ فيه حاجَة العبد، وجيمُه جود المَعبود الذي تختَتم فيه الشّعائِر بالرحمات والمغفرة والعتق.


الحَجّ لَمحَة بَصر البَصيرَة، فيه لمَن حالَ القَدر بين وصولِ مَقامِه سَفرٌ إلى الله لا إلى مَكّه، وطوافٌ حَولَ عَرشِ الله لا بَيتِه، فَمن تَلمّح العِبادات بِعين الفَهم عَلم مُلازَمَة رَسمٍ يَدُل عَلى باطِن، مَقصودُه تَزكيَة النّفسِ وإصلاح القَلب، لأن حقيقَة التعبّد هو صَرفُ القَلبِ إلى الرّب عَزّ وجَل.


فالحَجّ في فَلكَ النّفسِ لمَن عَجزَ عَن حُضور نُسكِه قائِمٌ بدلالاتِه، فإذا بَدأ الحاجُ حَجّه بِعقدِ النيّة بالحَج، فابدَأ أنتَ حجّك في فَلكِك بنيّةٍ تفَسخ كُلّ عَقدٍ يُخالِف صِدقَها أو عملٍ يُناقِض نَقاءها، فأوثِق مِنكَ الخُطى وقُل بيقين المُجاب: يا رَبّنا فإنّ السَفرَ لَك وَحدَك، والعَقدُ أنتَ قَصدُه، هَلَكَ كُلّ ما هوَ مِنه دون، نَسألُكَ اللهُمّ في أوله قَبول الضَيف، وفي أوسَطهِ سَماع النّداء، وفي خواتيمِه القَبول والمَغفِرَةَ التي وَعدت.


ثُمّ إذا تجرّد الحاجُ مِن ثِيابِه، فانزع أنتَ مَعه كُل دَنس في صَدرك، وتَجرّد عَن كُل ما نُهيَ عَنه، واجعَل بياضَ مَلابِسِكَ مِن نَقاءِ قَلبِك، فَشرطُ الإحرامِ التَجرّد مِنَ المَخيط، وتَذكّر أنّ المَخيط هُوَ الشيءُ الجامِع بينَ الشيئين وأنتَ كُلّكَ للهِ وحدَه مُتجَرّداً مِن دُنياكَ ومِن نَفسِك.

حَتّى إذا لبّى ربّه، شارِكه تلبيَة تَليقُ بالمُنادى، حَرّر مِن قَلبِكَ صوتَ النِّداء: لبيكَ اللهُمّ لَبيك، لبيكَ لا شَريكَ لَكَ لَبيك.

واجعَل مِن صَدرِكَ أُذُنَاً تَسمَع فيها جَوابَ النِداء الرّبّانيّ.


ثُمّ إذا دَخَل الحاجُ الحَرم، أدخِل أنتَ نفسَك في دائِرة تُحرّم عليها الوقوع في كَلام مُحرّم، ثُمّ إذا طافَ بِجسدِه حولَ بيتِ الله، شارِكه الطّواف بِقلبٍ تطوفُ فيه عَظمَة صاحِب هذا البَيت، دَع جَسدَكَ يدور في نَهرِ التَشريفِ ويَكأنّكَ قَطرةُ ماءٍ مَحمولَةٌ عَلى الأمواجِ لا سائِراً عَلى قَدميك، ثُمّ سَمّ الله إذا هَمّ الحاج بِشُرب زَمزَم، لتكونَ لَكَ فيها نيّة الطّهارَة مِن حُب الدُنيا ووساوس الشّيطان من قَلبِك.


واشحَن طاقَتكَ معه في السّعي بين الصَفا والمروة كأنّك تَسعى بينَ الخَوفِ والرّجاء.

وصاحِبه في الطَريقِ إلى مِنى، صُحبَة تأمَنُ فيها مِن الخَوف، تؤمنكَ فيها مِن رهبة الصّعود إلى عَرفات الله، لتعرِف مِنه مُراد الله مِنك في اطّلاعِه عَلى قُلوب أوليائه.

واركَب بُراقَ بَركَةِ هذا اليَوم واعرُج مِن جَبلِ عَرفة إلى سِدرَة المَنتَهى، عِندَها يُباهي الله بضُيوفِه مَلائِكَتَه.


ثُمّ شاركه المَبيتَ بِمُزدَلِفَة، مَبيتاً تَسكُن بِها جَوارحك لرحمَة الله، فَتُعينُه برميَ حَصاه لتَرميَ مَعه بِها عُيوبك عَن آخِرها، وليكونَ لكُما في حَلقِ الرأس إسقاط الذُنوب والأدناس كلها.


واختِم حَجّك في فَلكِك كما يَختِمها الحاج _إن استطعت_ بِذبحِ هديِك، ويَكأنّك تَذبَحُ فيها عَدوّك إبليس، حتى إذا طافَ الحاجُ في وداعِ البيتِ، أودَعتَ الله ما في قلبكِ مِن حَجٍ إليه ابتِغاء مَرضاتِه وقُبوله حَتّى يُهنئك الله بحج بيتِه في أعوام قادمة.


فأيُّ عاقِلٍ يَرى حَجيجَ الله في مِعراجِهم بينَ عَرفَةَ وسِدرةَ المُنتَهى، وهو حَبيسٌ في فَلكِه ولا يَحِنُّ قلبُه للحَج فَيشتاق، أو يُطلِقَ روحَه لتَحُجّ في فَضاء الله الرَحب.





ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات جعفر فوارس || شيء يعتقله عقلي

تدوينات ذات صلة