الغُربة أن يرتحل الإنسانُ عن وطنِه حامِلًا حُلمه بينَ يديه؛ فيكون اغترابه محل نفي أو انتفاع !
لَطالما كانَ للَفظ الغُربَة نوعًا مِن الرّفاهيَة للمُستَمِع، يُفسّرها بهئيتها الأولى عَلى أنها فُرصَة حَياة، مِنحَةٌ سَماويّة ستنقل المُغتربَ إلى طَبقَةٍ أخرى مِن طبقات الحَياة الإجتماعيَة، يراها عطيّة يُحسّن فيها المَرء وضعه الإقتصادي، ونُزهَة في بلاد الله وأرضه يَبني فيها ذاتَه، وتَتكامَل معرفته بِتنوع الثّقافات حَوله، يَقرأها في مُخيلتِه عَلى أنها أبوابُ جَنّة الأرض، والفَرحَة الكُبرى التي تجُرّ مَعها مَقولَة " إن غَدًا أجمَل ".
وعَلى النّقيض لِصاحِبها يومَ أن يَستَلِم تأشيرَة غُربَته، يَحمَدُ الله ابتِداءًا، ثُمّ يَضبِط البَسمَة بِحديثِ العَقل، يدمَع حينًا بامتزاج الفَرح والخَوف، والتِقاء الحُزن والسّعادَة، وتَبقى في روح صَاحبها ذات مَعنىً غامِض يَحتاجُ تفسيرها لأيّام ومَشاهد !
في الحَديثِ عَن الغُربَة، تَتشكّل الحُروف عَلى سَبيل المُقاربَة لتُشكّل " مَنفى ". أيُعقل أن تكونُ الغُربَة نَفي!؛ هَكذا في سُكونِ ليلَةٍ غابَ فيها النّوم سَألت القَمر !.
المَنفى أن تَقتَلِع أحدهُم مِن وطنِه إلى ما سواه_ قال القمر_، فيتهيّأ جَوابي سؤالًا، ومَن يَختارُ غُربَته ؟ إنّا نَحنُ أبناءُ وطنٍ نُولَد عَلى الأمَل ونَعيشُ عَلى التّفاؤُل، نَجتازُ مَراحِلنا العُمريّة عَلى أنّها أقسى مراحِل العُمر؛ لنكتَشِف بأن ما تَلاها لا تَقلّ فَضاضَةً ولا تَعاسَة!
فَكيفَ لِشاب في مُقتبل العُمر أكلَ الدّهر مِن شَبابِه وشَرب في سَبيلِ شَهادَة جامِعيّة وتَفوّق، أن يجد نَفسَه رقمًا في طوابير البَطالَة، كيفَ لَه أن لا يَحفُر الصّخر باحثًا عَن ما يُعيل أهله! ويَسُدّ رمَقَ حُزنِهم، كَيفَ لَه أن لا يدمِجَ الغُربَة بالنّفي وهوَ مُجبَرٌ عَلى المُغادَرة بدلًا مِن أن يُعدمه الفَقر في وطنٍ يُحبّه !
يُتابِع القَمر وكأنّه في غُربتِه حَزينًا: النّفيُ عُقوبَة يُنزَع فيها الإنسانُ عَن أهلِه وصَحبِه، وغُربَة الأيام هذه تُقرّبها الطّائرات، وتبسّطها برامِج التّواصُل !
فأرُدّ بعدَ جُهد المَحاولَة ألا أجرح: أيّها القَمر: إنّما نَحنُ قَومٌ مَجبولونَ بالمَشاعِر، تأسرنا لمعَة العَين، وقطبُ الحاجبين، البَسمَة الصّادِقة أبلَغ مِن دَواوين الشَعراء، ومُشاركَة الحُضن عَهدٌ عَلى اللّاانتهاء!
فَهل يَنسى رَسولُ الله دِثار خَديجَة!، أو رِفقَة الصّديق ومُناصرته، وأي شَيء كانَ من المُمكِن أن يُعوّض جَبرَ عائِشَة حينَ واسَتها امرأة الأنصار بِدمعِ عَينيها في حادثَة الإفك!، وهَل تُفيد المُكالماتُ المرئيّة ردّ فِعل طَلحَة مُستبشِرًا بِتوبَة الله عَلى رفيقه كَعب بن مالك فهروَل إليه واحتَضنَه، فَعاشَ عَلى قَولِه " لا أنساها لِطَلحَة !.
أيّها القَمَر: إن لَم تَكُن الغُربَةُ نَفيًا فأيّ شَيءٍ يَحتَمِلُ في جُعبَته مَعنى أن لا تَجدِ مَن يُشاركُك الفَرح، فَضلًا عَن الأحزان ! وأي غِياب أعظَم مِن أن تَحمِل بِرّ أبويك عَلى قوّتك فيُديمَا لكَ الدّعاءَ بالتّرضّي، وإن حُرمنا قُربَ البّر فلا أقل مِن أن نكونَ في شُبهَة العُقوق لِقلبِ أم يرتَجفَ أكثَر مِن هاتِف اليَد، يُتعبها رَغمًا عَنكَ غيابُك، وتُثير حَرارَة قَلبها ردًا مِنكَ دونَ اعتِيادِ النّغمَة، حَتّى وإن حاولَت أن تُخفي همّك فَقد سَبقكَ إلى قلبِها !
بأي ذَنبٍ يَعيشُ المُغتربُ مَنفيّا عَن مُشاركَة الأفراح، وأي قلبٍ هذا الذي يَحتَمِل غيرَة أصحاب أخيكَ يحتفلونَ بِه دونَك، أن تُحرَم مِن أن تَكونَ له شَريكَ الرّأي وسِر الحَكايا، أو أن يبيتَ في مَشفى _ لا قدّر الله_ دونَك!
حدّثني أيّها القَمرُ وأنتَ في عَليائِك: أي شيءٍ يُفاضَل في مَوازين الحَياة مِن أن تَكونَ السّندَ والكَتف، أن لا تَزُف أختك لِعروسِها بوصايا الجَفن للعَين، والقَفص الصدريّ للقَلب، تُنسى كُل المُكالمات وتَبقى طَمأنتكَ الأولى لها في أيّ شيءٍ دونَ انتِهاء !
أيُها القَمر: رُبّما تُنسيكَ الوحدَة أنّا خُلقنا مِن ماءٍ وطينٍ مَمزوج بالأُنس بالنَاس، فما قيمَة غُربَة تُنسينا قَديمَ الصّديق وَوفيّه، ولا تُكسِبنا إخوانَ غُربَة نُقاسي بِهم تَفرّد الحُزن، ونَتقاسَم أضواءَ الأفراح.
أيّها القَمر الغُربَة نَفي، والفَطِن مَن وجدَ فيها ذاتَه، ووازَن بينَ حاضِره وماضيه ومُستقبله، والغُربَة المُعتدلَة أن لا تَغتربَ عَن قلبٍ نبض بِجوارِك يَومًا، أو تَتعالى عَلى وطنٍ مَمزوجٍ بِدماء الأجداد.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات