رَمضان|| حَيثُ يَغارُ القَمر؛ فَنسموَ لنُعانِقُ النّجم في مُحاولَةٍ للعَودَة إلى جَنّتنا التى مِنها أتينا وإليها نَعود!


[ حينَ يَغارُ القَمَر || في استِقبال رَمضان ]


في تَحرّي الليلَة الأولى المُبارَكَة مِن شَهر رمضانَ الفَضيل، ناظَرتُ القَمَر مُتحرّياً رؤيته مُسابِقاً النّاسَ في شَوقِ القُبول لا سَبق الخَبر .. وحينَ ثَبتَ وجودُه بصيامِ يومِه الأول أردتُ أن أتثَبّتَ مِن ابتِسامَةِ اللّقا فَخاطَبتُه:


أيُّها القَمَر، وأنا في حضرتِكَ أزعُمً أن شوقي لا يَسكُن بالقُرب منكَ، ولا تُحِدّ رؤيَتُكَ مِن تَجليه، ولا يَنفَعُ مَعه بَرامِج الشّاشات ليثُبّطَ مداراتِ الحُبّ حولَك..

كيفَ يَخبو وأنتَ إشارَة الله أن فُتّحَت أبوابُ الجَنّة فأقبِلوا، وكيفَ يَغفوا وقَد بَشّرَ الله الصائِمَ بِفرحتين، والفَرحَةُ مِنهُما تَغمُر العارِفَ بالبَشرى.

ألا تَرى مَعي رسائِل المُبارَكَةِ تَطوفُ الأرجاء، وابتِسامات النُجوم تَبلُغ حَدّ السَّماء الأقصى بالخَيرِ الذي تَكَشّف للناسِ بِقُدومِك. ألا تَشُدّكَ مِثلي القُلوب التي تَوَضّأت فَتَطَهرت، والأرواح التي حَملَت مَصاحِفها مُهاجِرةً إلى الله عَلى بِساطِك..


ورُغمَ كُلّ هذه المُبهِجات؛ ما زِلتُ أنا أنا، الخَطّاء الذي يَشُذُّ مِنّي لَحن القُربِ حينًا، وتَتَموّه في عَينيّ سلالِم المِعراجِ فألتَزِمَ العَتبات، فَخُذ بيدي يا بُشرى الله لَنا بأنّ رمضانَ هَلّ وأقبَل..


فأجابَ بعدَ عن غابَت عَنهُ عُيون المُترقبين:


يا جَعفَر: " تَهيّء قَبلَ أن تُهنِّيء أو تُهنَّأ !

فاليوم الوقوفُ على بابِ الانتِظار خلل في الاستِقبال، إنّما كرم الضيافَة أن تنزِلَ مِن مقامِك نحوه، وتَخرُج إلى طريقِ الضيّف في فرح القُدوم.

واعلَم أنّ في التهيئَة لرمضان تَفيضُ الأفكار وتَتفاوت في التطبيقِ الهِمَم، لكن لا بُدّ أن نعقِدَ نيّة الأنبياءِ وإن قَصُر الجُهد.


في التّهيئة لرمضان لا بُدّ للقلوب أن تتزيّن كما الجُدران، أن يطير الروح بجناحيّ النقاء والطُهر كما ترتفع القناديلُ، ولا بُدّ قبل البَدء من أن تختارَ شِعارَك فيه، لتنادي كُل يوم عليك بِه: يا عبد الله خُذ الكِتابَ بقوّة!، فَقد خابَ مَن أدرك رمضان ولم يُغفر له؛ فيكون مِن شعارِك قوة التعرّض لنفحات الله فيه.


واحرص على أن يكونَ هذا الشّهرُ شَهر التُّروك؛ فبعدد المتروكات يكونُ فَعاليةُ الشّهر. فَتتركَ كُل ما يُبعِدُك عَن ربّك! وتَحرِصَ عَلى كُل ما يُقرّبك منه أكثر.

فتهيّء لذلك الأفكار، تُدونها لتجعلها في طور التحقيق، فمثلاً أن تعقد النيّة لتركِ الدُخان، أو أن تصِلَ إلى ربّك بالنّوافِل فتُحافِظَ عَلى الضُحى أو قيامِ الليل.


أيضاً أن تنوّعَ خَتماتِك، فليكُن لكَ خَتمَةُ استماعٍ من جوالِك في وقتِ المواصَلات المَهدور غالبًا، وليكُن جِهازُك مُصحفاً للتصفّح، وحاذِر أن تَنسَ الخَتمَةَ المُتدبّرة التي تستنطِقُ فيها كُل حرفٍ قُرآنيّ ويكأنّه أنزِل عليك، فتسمَع مِنه نِداءَ الله لَك، تعيش في جوّه مُحاورًا، أو مُجيبًا أو مُستفهمًا!

ثُم إيّاك أن تَمُرّ عليهِ مُروراً دونَ عُمقٍ فيصدق فيكَ قول الله :" وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ ... "

واجتَهد أن يكونَ لكَ مِن التفسيرِ نَصيبًا، فتأخُذ سورَة تُسمّي رمضانَك بها تبحَث في آياتِ نُزولِها ومعاني كلماتها ورسائل الله لك منها.


يا أيّها المُقصّر: فَتِّش عَن نَفسِكَ فيك، وانظُر الله في مِرآةِ ذاتِكَ تَجده، تَخلّص مِن قَيدِ الدُنيا بالتَحليقِ إليه، ومِن قَيدِ الشَهوة بِمُراقَبتِه، ومِن سَلاسِل الشُهرَة بِمعرِفَة جَهلِك، واعلَم أنّه ما جَعلَ لَكَ فيكَ مِن شيء إلا ويَسرَ لكَ طَريقًا تَقضيه، فلا يَأسِرك ضَعفُك، واسجِنه بِقربِكَ مِنه، وحَرّره فيما شاءَ لَكَ ورضي مِن قَول أو عَمَل ..


يا أيّها الباحِث عَن نورِ الله: هَل يَجدُ النورَ مَن يَجهَلُ النّور؟ فَكيفَ بِكَ تَبحَثُ عَن الله بِجهل.’!.

إنّ الطَريقَ إلى الله تَبدأ بِمَعرِفتَه، والوُصولُ إليهِ سُبحانَه يَتَطَلّبُ تَجردًا فَـ "جَرّد قَلبَكَ عَن السَّهو، وجَرّد نَفسَكَ مِنَ اللّهو، وجَرّد لِسانَكَ مِنَ اللّغو، وجَرّد عَينَكَ مِن الفُضول، وجَرّد كُلّك مِن التَعَلّق فالمَرءُ رِقُّ ما استَولى عَليه، ثَمّ اسلُك حَيثُ شِئتَ تَجِد جَنّتَك .. "


يا عَبد الله التائِه بينَ القُرب والبُعد: انفِر مِن لَمعَةِ الأسماء واقتَرِب مِن أصلِ المَعنى؛ تَكُن مَعنيًّا بِقولِ الكَريم _جَلّ وعّز_: " إنّي جاعِل "، واستَنِد على العادات لِتُحَقّق قَفزَة التَفَرُّد، وتَحولق مَع نَفسِك وروحِكَ في كُل ليلَة لتَستَكشِف ذاتَك وتُصلِحَ نَفسَك. ثُمّ تَخَلّصَ مِن أرضيّتِكَ بتوبَةٍ سَماويّة تُدنيكَ مِن خالِقك.

وأعلِن تَوبَتين: الأولى أن تَرجِعَ إلى نَفسِكَ اللوامَة، ثُمّ تَرجِعَ مِن نَفسِكَ إلى الله، وانتبه أن يكونَ رمضانُك مرضان، مَرضُ الجَسد والروح، أو أن تُحوّله مِن ثلاثين توبَةٍ إلى ثَلاثين حَلقَة تلفزيونيّة!

ولكِن ليكُن رمضانًا تَمرَض فيهِ الذُنوب؛ لنعودَ بنا إلى أصلِنا يومَ خُلقَ آدَم في جَنّة الله، وجعله خليفَة له في أرضِه.


فاللهُم سَفرًا إليكَ مُلتمسًَا ريحَ قُربِك؛ فاقبَل يا رَب عودَتنا، واكتُب لَنا في قُدومِ رمضانَ أن نحياهُ بالرَّمضان الذي أردت، والصَومَ الذي لك والتَصقَ بِجلالِك بقولِك: " الصومُ لي ".


وعَلى هذا العَهد نَرتَجي مِنكَ أن نَسمو لنُعانِقَ النّجم، ليكونَ الصَوم مِعراجًا نرتوي فيه مِن حَرّ المَعصيَة، وتَظَلّلاً في وافِر رحمَتِكَ ورضوانِك.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات جعفر فوارس || شيء يعتقله عقلي

تدوينات ذات صلة