هُنا حيثُ السّماءُ قِبلَة الرّوح، والقَمرُ القُدوَة!
يا قَمرَ السَماء، ويا بُشرى الخَير وميقات الفِراق، ألَم تَقرأ قولَ الله: " وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا "؛ فَتمشي في سَماءِ الله الهوينا دونَ هَرولَة، فَمالَك استَعجَلت عَلينا الرّحيل!، ففي الأمس كُنتَ وليدًا بالكادِ رَصدناك حَتّى استَعجلتَ الظُهور، وهَرولتَ في المَسير، ويَكأنّك تَفِرُّ مِنّا آخِذاً رَمضان الذي نُحِب.’!
عَلى مَقرُبَةٍ مِن انتِصاف اللّيل رأيناكَ تأكُل النّجوم بِنَهمٍ حتّى أتَمّ الله لكَ نورَك؛ فانتَصفَ بكَ الشَهر، فتبعناك في الأكل دونَ أن نُشعِلَ نورَ قُلوبِنا فازدَدنا ظُلمَة..
ومُذ ذلكَ الوقت وأنا أرى فيكَ الحُزن، تَتساقَط منكَ شَظايا النّور فَتَتلاشى؛ ويَكأنّك تأكُلُ بَعضَك نَدمَا عَلى ما فات، ويلتَحِفُ بَعضُك غِطاء الليل حياءً، هذا وأنتَ المُسبّح في أول اللّيل وآخره، السّاكِنُ من الخَشيَة حتى تَشقَقَ سَطحُكَ، فأيّ عُذر لنا ؟
أيّها القَمر: رِفقًا رفقًا..
فالقَلبُ ما زالَ طَورَ التّهيئَة، ومَجرى العين ما انفَكّ صَدأه يَمنَع الدَمع، وما زِلنا عَلى مَقرُبَةٍ مِن الصَدمَةِ الأولى، لَم يُتِح لنا تَقصيرنا نَبضًا مُنتَظمًا بَعد، ولَم تَتخلّص الروح مِن شَوائِبها فَتسمو إلى العَلياء فَوقَك.
أيّها القَمر: رِفقًا رفقًا..
وقد قالَ الحَبيبُ _ صلى اللهُ عَليهِ وسَلّم _" رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ "، فَهل عَساهُ دَخلَ في قُلوبِنا فَنَظَرَ اللهُ إلى صَفائها فقال عزّ شأنُه: إني غَفرتُ.
أم تُرانا نَلعَبُ عَلى هامِشُ الدُنيا وما وصَلنا بَعدُ مَتنَ الرّمضان الذي يُريدُه الله.
أيّها القَمر: رِفقًا رفقًا..
فما زِلنا نُقلّب الصَفحات عَلى عَجَل قَبلَ أن نُقلّب بها أيامنا بالصَّلاح، ونَعُدّ الآيات دونَ أن نَعتَدّ بِها، ونَدخُل الصَلاةَ كما خَرجنا، وكَأنّها رياضَةُ جسدٍ لا لَياقَة روح.’!
أيّها القَمر: رِفقًا رفقًا..
إنّ الصَّومَ مَدرسَة، وما زِلنا كُسالى في آخر مقاعِد المُشَمّرين، تَسمَع منّا ما لا تَراه، فَهَلّا خَفّفتَ الخُطى وأثقلتَ الوَداع؛ عَلّنا نُتابِع المَسير فَنلحَقكَ أو نُقارِب.
فَشَدّ القَمرُ مِئزَرَ الليل عَلى خَصرِه، وذابَ في أعالي السّماء مَهابَة العَشرِ العِظام، وتَساقَطَ بَعضُه ألمًا عَلى مُرّ الفِراق، وينطَفىءُ سِراجُه رويدًا رويدًا دليلَ اجتِهادٍ وتَهيِئَة للوَداع؛ ويَكأنّه بَشريّ الطّبع يُقبِل عَلى ربّه تائِبًا فيأكُل بَعضُه بَعضَه نَدمًا عَلى التّقصيرِ والفَوات.
فازداد بهذه الهِمّة نور القَمر إلى أوجِه في ظُلمَة الليل وسطَ مُناجاة الصّالِحين؛ فأنار مَعه اللّيلَ والقَلب، وليجعَل للكَلامِ مَعنىً أيقَظَني مِن نومي قائِلًا:
يا بُني تَعال نَسيرُ عَلى بِساطٍ أحمَديّ جُلّ ما فيه: " استَدرِك ما فاتَ بِتجديدِ النيّة، ولا تُكثِر من اللّومِ فيصرِفك عَن فَضائِل الأعمال.
وأعلَم أن هَذه عَشرٌ باقِيَة، فيها لَيلَةٌ خَيرٌ من ألفِ ألفِ شَهر، فَتوضَّأ بالهِمّة وأشعِل القِنديل الذي فيكَ لِتسمو.
وإيّاكَ أن تَخرُجَ مِن المَسجِد قَبل الإمام، وأدرِك قيامَ اللّيلَة معه.
ثُمّ إيّاكَ إيّاك أن تَنشَغِلَ بنِقاشِ وقتِ ليلَة القدر عن العَملِ بها، وأعلَم أن النبي صَلى الله عليهِ وسلّم كانَ يجتَهدُ في هذه العَشر أكثر ممّا كان يَجتَهِدُ في غيرِها.
فَقُم وشِدّ مِئزركَ وأحيي ليلَك وأيقِظ أهلَك.
فإنّ النور الذي يَتساقَطُ مِنّي يُصيبُ قَلبًا نَقيًّا شاءَ الله لَه أن يُنار، فَليكُن صاحِبُ هذا القَلب أنت.’!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات