فِي خضَّمِ ارتفَاع عمَالة الأطفَال عالميًّا وَ عربيًّا للمرّةِ الأولَى منذُ عقدَين، باتَت التّوعيَّة وَ اتِّخَاذ إجراءَات صارمَة تحرِّم هذهِ الظاهرة فرضًا.

يأبَى الظُّلم أَن يفارقَ الطُّفولة، أَنْ يفارقَ تلكَ الأجسامَ الضّعيفَة، الوهنَة، وَ يأبَى الزَّمن رسمَ الابتسامَة علَى وجوههِم فبقيَت أسيرةَ ظروفٍ قاسيَّةٍ؛ حروبًا كانَت أَم فقرًا وَ جهلًا. إنّهَا عمالةُ الأطفَال وَ سلبُ الحقُوق وَ اغتصابُ الطفولَة حتَّى غدَت ممزّقةً ضائعَةً.


ففِي كلِّ عَام تزدادُ النّسبُ بشكلٍ مخِيف حسَب منظَّمة اليونسِيف حتَّى وصلَت المائةَ و السّتُون مليُون طِفلٍ انتُهكَت حقوقهُم فهامُوا بينَ الشّوارعِ حينًا وَ المصانعِ وَ الورشِ أحيانًا أخرَى حتَّى انحنَت ظهورهُم الّتِي لَمْ تستقِمْ بَعد وَ اخشنَّت أيديهِم الصّغِيرَة النَّاعمَة وَ قُتلَت ضحكاتَهُم وَ ثَقلت خطواتهُم.


وَ يستمرُّ العدَّادُ صعودًا وَ كأنَّهُ فِي مضمارِ السّباقِ وَ قَدْ عزمَ أَلَّا ينكسرَ ليسجّلَ رقمًا قياسيًّا جديدًا بحسبِ اليونيسِف فيزيدَ لمحصلتهِ تسعةَ ملايينَ طفلٍ عاملٍ جدِيد بعدَ أحداثِ الكورونَا لوحدهَا. فاغتصبَت أحلامهُم وَ نزعَت حقوقهُم فِي اللَّعبِ وَ حرّمَت عليهِم مقاعِد الدّراسَة وَ استبيحَت برائتهُم فآلَت بهِم إلَى رجالٍ و نساءٍ حبيسِين أجسامٍ صغيرَة منهكةٍ معتّمةٍ ثقيلةِ الخطوَات بواجباتٍ ليسَت كواجباتِ أقرانهِم، فيجلسُ أحدهُم شاردَ الذّهنِ متسائلًا.


ليتنِي أستبدلُ سلّةَ البيضِ بتلكَ الحقيبةِ الملوَّنةِ، المملوءَةِ بالآمالِ و المكسوَّةِ بالأحلامِ. ليتَ خوفِي علَى كسرِ البَيض يكسرُ كيسَ قوتَ إخوتِي وَ أمِّي، و يتوقَّفُ يومًا حتَّى يتوقَّف كسرَ طيفَ ملاحقةِ أقرانِي وَ هُمْ يتسابقونَ نحوَ طريقِ المدرسَةِ حتَّى تُصابَ عينايَ بالغشاوةِ. كيفَ للأحلامِ البسيطةِ بحملِ القلمِ وَ الكتابِ تكسرُ صاحبهَا؟! كيفَ يألفنِي الرَّصِيف وَ لَا آلفُه؟ كيفَ تصارعُ قدمايَ الَّتِي عهدَت طريقها عقلِي الَّذِي يأبَى حفظَ المكَان؟ كيفَ؟ وَ كيفَ؟ وَ كيفَ ؟!


متَّى يحينُ زمانِي فَأنامُ قريرَ العينِ وَ أحلمُ باللَّعبِ وَ المرحِ وَحمل الكتابِ دونَ الخوفِ منَ الاستيقَاظ علَى تلكَ السّلةِ الباليةِ الّتِي أهدرَتْ طفولتِي وَ لَمْ تأبَ مفارقتِي؟

ألَا أعدُّ أقلامِي بدلًا منكَ يَا بَيْض؟ ألَا أوضّبُ دفاترِي بدلًا منكِ أيّتُهَا الأكياسُ البائسَة؟ ! مالِي أرَى الأبيضَ أسودًا فيكَ يَا بَيض؟ أيامِي معكَ تمرُّ كئيبةً ثقيلةً حتَّى أصيبت أحلامِي بالهشاشةِ ذاتهَا الّتِي تكسوكَ. متَى تحرريننِي مِن أسرِك يَا سلَّةَ البَيض، فتغدينَ تلكَ الحقيبَة الملوَّنةِ المملوءةِ بالأحلامِ.

متَى يُنفضُ غبارَ الطّفولةِ الهَائمَة عن ذاكَ الرّصِيفِ البالِي، لتؤولَ طفولتِي راقصةً، ضاحكةً، خاويَةً منَ الألمِ وَ المرارةِ؟! فألحقُ بأترابِي نحوَ المدرسةِ الفائضةِ بالأحلامِ وَ الصّاخبةِ بالأصواتِ العاليةِ. ليتنِي أجنحُ فوقَ أسواركِ يومًا فتصبحينَ ليَ مقرًّا.

أمَّا أنتِ يَا سلّةَ البَيض فمكانكِ ليسَ معِي، ليسَ مَعَ طفولتِي، ليسَ معَ أترابِي، لستِ ضمنَ الحقوقِ وَ اللّوائحِ، فابتعدي عنِّي وَ لَا تَعهدينِي فمَا عهدتكِ يومًا قطّ. فأينَ اللوائحُ و أينَ القوانينُ؟ أينَ الإنسانيّةُ الّتِي سمحَت بهكذَا إجرَام؟ أينَ المجتمعاتُ المدنيّةُ وَ المنظّماتُ الشرعيّة من هذَا؟ "وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر" كمَا قالَ الشّابِي.




جعفر وهبة

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات جعفر وهبة

تدوينات ذات صلة