أسمى حالات الإشتياق التي لا أجدُ لها وصفًا.. أين زالت تلك الأيام؟!

بعيدونَ جسداً قريبونَ روحًا! (*:

"قبل ظهور أشرطة الكاسيت!

زمن صور الأبيض والأسود، كان الناس يفتقدون أحبابهم، يشتاقون إليهم ولا سبيل لرؤيتهم، حتى صور الأبيض والأسود لم تكن تقر أعيُن المشتاقين! أما صوتهم فيُنسى كأنه لم يكُن! ومن زمن لزمن يأتي إتصال يُحييه، ثم يُنسى!


دخل التِّرحالُ بيتنا منذُ القِدَم، هاجر أخي الأكبر إلى بلاد الملك فيصل في التسعينات بحثاً عن عمل، كانت تنقطع أخباره بالأيام والأسابيع، ثم يأتي صاحب مكان الإتصالات القريب من بيتنا ويقول " عندكم مكالمة من بره الساعة ١٢"!


تذهب أمي وتأخذني معها، ننتظر في مكان الإتصالات ثم يأتي صوت الهاتف، نسمع صوت أخي في دقائق معدودة يُطمئننا على حاله ونطمئنه على حالنا بلا خوض في التفاصيل نسبة لغلاء الإتصال الدولي في ذلك الوقت..


لم أكن أفهم وقتها قيمة هذه الدقائق عند أمي، أما بعد أن أدركت قيمة الصوت، عذرت اللهفة التي كانت في صوته وصوتها!


ثم ظهرت أشرطة الكاسيت، صارت حلقة اللقاء وذرف الدموع والأشواق مع سماع صوت الأحباب، أو التسجيل لهم والحكايات التفصيلية عن أحوالهم وأحوال الأهل والجيران!

كنا نشتري شريط فارغ، أو شريط أغاني قديم نمسحه ثم نقوم بالتسجيل عليه! حينها كنا نسردُ القصص والحكايات!


قبل سنة تقريباً أرسل لنا أخي على قروب العائلة في الواتس آب التسجيلات الصوتية التي كُنَّا نرسلها له، وضحكنا على حالنا وجمالنا وسذاجتنا!


أما أنا أعيد سماعها وحدي في الليل وأبكي! أبكي على حالِنا وشتَاتنا!

أكرر سماع التسجيلات، يأتي صوتي وأنا أغني لأخي أناشيد المدرسة ببطء شديد " مروحتي، مروحتي"، يأتي صوت أختي وهي تغني له " زُمراً في الجنة زُمراً"!

يأتي صوت أخي الثاني وهو يحكي له عن أصدقائهم وحكاياتهم في المسجد!


ثم يأتي صوت أمي، ذلك الذي كدت أنساه!! سمعته قبل عام في التسجيل كاد قلبي أن يطير! رجف في الداخل ولم يهدأ، ولن يهدأ!


تحكي أمي لأخي الحكايات، وتسأله أكثر من مرة عن حاله وكيف يأكل وكيف يعيش! وتوصيه أن يُسجِّل لنا شريطاً بأقصى سرعة يجاوب لنا فيه عن كل أسئلة الشريط المرسل إليه!

قالت له أمي في التسجيل " الشريط ده هو الشريط اللي انت كنت سجلت لينا فيه، مسحناه عشان ما قدرنا نشتري شريط جديد نسجل ليك فيه عشان المسافرين ليك مستعجلين، فلما يصلك رسل لينا تاني واحد قول فيه اي حاجة بصوتك ان شاء الله تقرأ قرآن بس!"


كانت تود أن تحتفظ بصوته في ذاكرتها وقلبها،

وهي لا تدري أنها بالتسجيل في ذلك الوقت حفظت صوتها لنا، وسمعناه بعد سنوات!


بعد أن إنتهت أمي من التسجيل،

جاء صوت رجل قام بالتسليم على أخي بصوته العذب والرخيم - في آنٍ واحد - وبِلَكنَتِه المصرية، سأله عن حاله - شددت انتباهي أكثر مع الصوت وسألت نفسي - ده منو ياربي- واصلت السماع وهو يقول له " احنا مش زعلانيين منك، احنا بس عايزين ليك الأحسن وشايفين انك لحد الآن قاعد ساي وما أنجزت شئ "!


تذكرت الصوت بعد انتباه شديد، جرت دموعي في اللحظة، أحسست أن مصباحاً ما أضاء في ذاكرتي، أضاء ذكريات كُنت قد ظننتُ أنني نسيتها وشُفيتُ من الحنين إليها، كل أيامي معه، كل سنواتي الحادية عشر تحت ظِلِّه ودلاله!

تذكرت صوته الذي بدا لي غريباً جداً، وبعيداً جداً! كأنه لم يكن هنا في يوم ما!

حزنت لنسيان صوته حزناً شديداً، أعدتُ سماع التسجيل ليصبح صوته مألوفاً! ثم لم أستطع اكماله حتى الآن!


لا أدري ما شعوري بالضبط، هل أنا حزينة على نسيان صوتهم؟! أم سعيدة بتذكره مرة أخرى!

ولكنني أظن أنني أقرب للإمتنان للأشرطة الكاسيت التي احتفظَت بأصواتهم وقتها، لنسمعها نحن الآن ولا ننسى صوت أحبَبنا!

كتبَ كافكا في أدب الرسائل: "كيف لمحادثةٍ بسيطةٍ أن تزرع هذا الحشد الهائل من المشاعر في قلب المرء دون لقاء؟"


قدِّروا صوت من تحبون، اجلسوا معهم قدر الإمكان وأكثر! حتى لا يأتي عليكم زمن الندم!


أما نحنُ، الأحياء في الظاهِر، نتذكر تلك الأيام ونُردد بيننا، وبيننا يارب " زُمراً في الجنة زُمراً، خالدين في الجنة زُمراً"

كتبت علينا الفِراق في الدنيا، والمشيئةُ لك! والرضا منكَ عنك، والصبر دواء لا شفاء به إلا بإذنك وحولك وقوتك!

فاحشُرنا زُمراً في الجنة 🌻.

الإبــاء..

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

عزيزتي الإباء شكرا لك على كلماتك الراقية ويا رب أكون عند حسن ظنك لك كل الحب … 🥰🥰🥰

إقرأ المزيد من تدوينات الإبــاء..

تدوينات ذات صلة