لم أجِد أبدًا كلماتٍ بإمكانها إنصافُ مكانة القائد علي عزت؛ في قلبي أولاً وعلى جميعِ الأصعِدة!
تقول سابينا بيجوفيتش أن والدها كان يصحبهم في الليل إلى السماء، يجلسون، يتكّئون، أو غير ذلك، وينظرون إلى السماء. لا أذكر الباقي لكنّي أذكر مقولةً لوالدها الطيّب عن فكرة السماء، تلك التي يعرفها إنسان أفريقيا البدائي أفضل من نظائره الأوروبيين أو الأمريكيين، فهو الذي يهتدي بها في الصبح والليل، بينما نحن -معشر المتقدّمين وتابعيهم- قد تركنا المسألة لعلماء الفيزياء والفلك. يقول عليّ -الحنون- أن المشكلة الأساسية لا تتبدّى في المعرفة أو الجهل، وإنما في الخسارة التي تنطبع بطابع أخلاقي كبير.
فالإنسان الذي لم يرفع بصره للسماء، أو نادرًا ما يفعل، يفقد حس الاتجاه؛ فبغير صورة السماء يُحرَم المشهد الذي تنبع منه حكمة الدنيا بأسرها. يقول عليّ: من خلال هذا المشهد السماوي فقط، يستطيع الإنسان أن يُقدِّر عظمته وتفاهته، بشرط ألا ينسى أيًّا من الأمرين.
قبل سبعة أعوام وثلاثة أشهر، قُدِّر لي المبيت في الصحراء العارية، لا سقف ولا جدران، أفر من يوم شاق إلى صباح أكثر شقاءً ينتظرني، وما بينهما هذه الليلة التي توسدت فيها الرمال، ولكنّي نسيت كل شيء في نظري الهارب إلى السماء. لقد صدقني عليّ قبل أن أعرفه، حينها عرفت تفاهتي وقدري المُقابل من السمو، فكل شيء يمكن أن يكون خفيفًا إذا خالطته فكرة الزوال. كل شيء يزول، للأسف، ولحُسن الحظ.
حين ننظر إلى السماء تتضاءل الدنيا، تنكمش الهموم، تختفي الأرزاء كأنها لم تكن! هذا الكون العظيم الواسع، الذي لا أراه دُفعةً واحدة، أُدرِكه من نظرة إلى النجوم. هذا الكون الواسع في سماء واحدة، لا تُجاوز قدر حلقة في فلاة للسماء التي تليها، والتالية لا تجاوز القدر نفسه للسماء الثالثة… وهكذا حتى السابعة، ثم العرش، والرحمن على العرش استوى، فبأي قدر تكون الدنيا إذا حضرت السماء؟!
أنا لا شيء، وأنا الشيء الحقيقي في الوقت نفسه. هذا الجسد الهزيل سيبقى هكذا مهما انفتلت فُتوّته. هؤلاء المُرهِقون، هذه الهموم، هذا الخوف الدائر وراء الأمور، كلها برّانيات الدنيا التي تُخفيها السماء. تلك الروح التي تطير بي أوسع من كل هذا، فكل الأمور بيد خالقها، الجليل الذي أفرّ إليه من سقطتي قبل خوفي، وأفزع إليه من خُسراني قبل جور العباد.
هذا القدير الرحيم، الذي وهبنا هذا الجمال. حينها أعي الحقيقة الأولى: أن لهذه اللحظات معنًى يحميني من الخواء، وأن لهذا المشهد ربًّا يحكم ما فيه. حينها أُدرِك التفاهة المُتزامنة مع العظمة، فلا أخاف إلا بقدر ما أطمئن، ولا أنطوي في السبب وفي قلبي إيمان بخالقه.
مع هذا لا يتركني الخوف، وربما لن يفعل، ولكنّي أهدأ كطفل أنهكه البُكاء ليلًا حين غطّت أُمّه في السُبات. يهدأ دون أن تُهدهده يداها، ولكن طمأنته السماء. هذه اللحظة، الفريدة، هي كل ما أحتاج لئلا تقتلني الحياة.
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ.
"بيجوفيتش رجل تجاوز جميع الإطراءات مهما كانت بليغة وشاعرية، وحتى وأنا أكتب الآن، لا أجد ما يعطي الرجل حقه، ولطالما وقفت صامتًا في كل مرة يذكر فيها، وكرد للجميل، فلا زلت أضع كتابه «هروبي إلى الحرية» بجانب وسادتي منذ سنين، فمع كل انتكاسة دنيوية تصيبني، أفتح الكتاب وأبدأ بالتقليب فيه وكأنني أراه لأول مرة، وأتمنى في يوم ما أن ألقى ما لقيه هذا الرجل!" "عبدالوهاب المسيري".
رحم الله عليّ!
💙
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات