كلام بسيط عن نفوس حائرة، تحمل داخلها الكثير من التساؤلات، وتريد مايجبر خاطرها ويشفي صدرها، ويثلج قلبها.

في داخلي مصحة نفسية



من فطرة الإنسان وطبيعته التي جبل عليها أنه يحتفظ بالمعلومات والذكريات وجميع الأحداث التي مرت به خلال مراحل حياته، في ذاكرته البعيدة وعقله اللاواعي، فتتخزن على شكل معلومات مبرمِجة لشخصيته


ومعتقداته، فإن كانت هذه الأحداث مؤلمة وقاسية بالنسبة له، أصبحت نفسيته قابلة للإضراب والخلل النفسي، في أغلب الأحيان، ممّا يجعله على مرِّ الأعوام وتراكم الأحداث، والضغوطات اليومية المتزايدة والمتسارعة،


في دوامة من الأفكار، والوساوس والتهيؤات، التي لا يُعرف لها أول من آخر، كأنه في بحر تتلاطمه الأمواج من موج لآخر، لا يكاد يلتقط أنفاسه حتى يجدها في لجّته من جديد، وكأنها ظلمات بعضها فوق بعض، نفس


تستغيث، وقلب يلهث، وأحلام تتلاشى، وفي الذهن عشرات بل ومئات التساؤلات، ما الذي وقع؟ وكيف…. ولماذا….. وما السر؟ وهل يوجد حل؟ ويا ترى ما هو المخرج؟




أنواع المصابين في التعامل مع حالاتهم النفسية



فكل يتعامل مع مُلمَّاته ومُصابِه على حسب وعيه ودرجة إيمانه:


فمنهم من يهيم على وجهه وقد تلبست به الشياطين، فهو لا يرى مخرجًا ولا منفذًا إلّا الرقاة، حتى إذا عجزوا عن شفائه، إلتمس حاجته عند المشعوذين، ثم بعدها إلى الدجالين وهكذا، فلايُترك مكان في جسمه إلّا ضُرب


وكُويَ حتى يخرج الجني الذي بداخله، وفي هذه الأثناء تكون حالته قد ساءت وتدهورت ووصلت لمراحل متأخرة جدًا، وهذا ما لا نريده طبعًا.


وآخر التجأ للمهدئات ومضادات الاكتئاب، ومن طبيب لآخر، دون جدوى، فقد أعيته حيله.


وهناك آخرون ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فقرروا الخلاص من هذه الحياة ومعاناتها، والعياذ بالله.


وهناك من التمس نور الأمل في داخله، وأيقن أن له ربًا قادرا، فألهمه القوة وطريق الرشاد.



أرسم طريق الأمل قبل أن يختل التوازن



فأنا أتكلم هنا عن الحالات النفسية البسيطة التي يمكن علاجها بالدعم النفسي الداخلي والخارجي، قبل أن ينقلب عليها الحال والمآل إلى مصحة نفسية، نريد أن نقول كلام بسيط وسهل عن نفسٍ معقدة مشكلة، نريد


النزول بالقواعد العلمية إلى لغة الإنسان البسيط، قبل أن يختل التوازن، قبل البدء بحبة مهدّئ على حبة مضادة للإكتئاب، إلى الراقي فلان، إلى مخرج الجني وكاشف السحر علان،


لا شك أن هذا هو ابتلاؤك في الحياة وطريقك المرسوم لا حياد لك عنه إلّا بالمواجهة والقوة والعزيمة والإصرار. فأنت هنا في اختبار وما خُلِقت إلّا لأجل ذلك، كما قال عز وجل: « الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ


أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» (الملك الآية2)، و ما من واحدٍ إلَّا وتلاطمته الليالي والأيام بحُلوِها ومرِّها، من لدن آدم عليه السلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فهذه سنة الله في خلقه، وما مردك إلّا إليه، فهو


حسبك، وكافيك. ونعم الوكيل. فحالتك النفسية ليست ضعفًا في إيمانك ولا نقصان من شخصيتك، كما يروج ويلوح معظمهم، بل هي اختبار لك على مدى تحملك ووعيك بذاتك، ومدى اتصالك بخالقك، فكلٌّ مبتلى على


درجة إيمانه، يقول عز وجل في كتابه الكريم:

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة155-157]:

ويقول نبينا الكريم صلوات الله عليه: «إن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه».


وحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية: أن أكثر من ثلثي سكان العالم تعرضوا لواحد من الأمراض النفسية أثناء مراحل حياتهم، ومن المرجح أن المرض النفسي سيكون الأول على قائمة الأمراض التي تواجه البشرية


بحلول عام 2030. وكما قلنا سابقًا أن طريقة التعامل مع المشكل بوعي وإرادة لإيجاد المخرج السليم، هي التي تبين قوتك ودرجة إيمانك، وليس أن لا تصاب بالمرة.



كيف نتجاوز المرض من بدايته ونعيش في رحاب مصحتنا الداخلية



لا شك أن منكم من يتساءل: كيف يمكن أن أتجاوز كل هذا؟ وهل يمكن فعلًا أن أحيا حياة طبيعية، وكيف ذلك؟ نعم فالأمر مجرد اهتمام بسيط منذ بداية شعورنا بالحالة النفسية السيئة أو حتى قبلها، الإهتمام بأنفسنا


المشتتة التي تستغيث وتئِنّ من جروحها، ولو أصغيت لها بفكرك وقلبك، لسمعت شيئًا بداخلك يقول لك: أنا هنا... أنا أنت….. وأنت أنا!!.. لَا، هي ليست فلسفة أو ضربًا من الجنون، بل واقع حقيقي. لطالما خُضت مع


نفسك معارك، واستغرقتَ بها في أفكار، ووساوس، وأوهام، التي لاجدوى ولا طائل منها، وذلك بدون وعي منك. فما نطلبه منك الآن فقط هو أن تحوّل الإتجاه، بدلا من أن تحاورها بدون وعي، حاورها بوعي، وبهدوء تام،


اذهب بها إلى زاويةٍ خالية مريحة، مع أخذ نَفسٍ عميقٍ جدًا، يأخذك لعالمها لتجول في رحابها، وتشمَّ عبقها، وتكتشف دررها ومكنوناتها، وسر وجودها في هذه الحياة. اتصل بها وعيًا وروحًا من نفخ خالقها، كرِّمها كما


كرَّمها الله عز وجل، بالإنصات لها، وبالتَّفَكُّر فيها،وبتلبية حاجاتها النفسية، كالفضفضة مع الأصدقاء والمقربين لقلبك، الذين تثق بهم، كن على تواصل دائم معهم، فهم مسخرين من الله في طريقك، مع تلبية حاجاتها


الصحية، كالرياضة والأكل الصحي، ولا بأس باستشارة مختصين، فقد كُلِّفنا بأخذ الأسباب، والأهم من ذلك كلِّه، أن تعتني بها في علاقتها مع خالقها، في جلسةٍ تدبرية تأملية، تحتسبها ذخرًا لك، من جلسات التبصُّر


والتفكُّر، التي دعيت لها، عندما قال الله عز وجل: « وفي أنفسكم أفلا تبصرون» [الذاريات 21] وقوله تعالى: «أَوَلم يتفكروا في أنفسهم»[الروم ٨] وغيرها من الآيات الكثير والكثير.


فياله من لقاءٍ مع نفسك التي غِبت عنها طويلًا، ويا لها من جلسة بعد شتاتٍ واشتياقٍ طويل، لا تقدم حلولًا، ولا لومًا، ولا عتابًا، وامحُ عنك أردان الماضي، بآلامه وأحداثه، وعش حدث اللحظة، راقب نفسك على عين من


الله، مُتأملًا في عطاياه، فالسر كل السر في الخلوة مع الله، ففيها كل معاني الحياة، حياؤك، حبك لنفسك وللآخرين، ثقتك بنفسك، تعظيمك لخالقك وإجلاله، تدبرك لآياته، كلها معان عظيمة، تمثل سر الحياة،


حينها فقط ستنبع منك الحكمة والعطاء، لتصبح أنت الملهم، واليد الحنونة التي تأخذ بيد كل مبتلى، ضاقت عليه نفسه والدنيا بما رحبت، لتدعمه وتوصله لبر الأمان، فالعطاء مرحلة أخرى رائعة في حياتك، وجمال آخر،


وانشراح للصدر ما بعده انشراح.

















إقرأ المزيد من تدوينات حــــنـــــان مرزاق

تدوينات ذات صلة