اسم المتسابق: محمّد بشّار علي المحمّد - فئة المسابقة: الفئة العمرية من (13-18) سنة


تفقّدتُ الأمسَ شعوريَ المقلَّمَ باختلاطِ العواطفِ بعد أن قرأتُ كتابًا صغيرًا؛ لقد لوِّنُ هذا الكتابُ رغبتي بالقراءةِ، وأشغلَني عن الظّروفِ المحيطةِ الصّعبةِ جرّاءَ هذه الجائحةِ "فايروس كورونا"، وأحسنَ ترتيبي حينَ لمَستْهُ راحةُ يدي على المِنضدةِ..

كيف يفكٍّر الكبارُ؟

كيف يحكي القصّاصونَ قصصَهم في أزقّةٍ فقيرةٍ؟

كيف يسقط قلبُ القارئ مسجًّى حينما يلتقي في أحضانِ القصّةِ بشخصيّةٍ دقيقةٍ تشبهُ حلمَه النّاعمَ ووجهَه المنسيَّ؟

ما معنى أن يخلوَ القارئُ بنفسَه فيخرجَ ذا عقلٍ حصيفٍ حين يأكلُ الكتابُ لحمَ قلبِه؟

تلك التّساؤلاتُ الرّقيقةُ كانَت تجيءُ في بالي كثيرًا حينما تقصُّ عليَّ أختي أخبارَ الكتبِ التي تقرؤها، وما كنتُ لأعرفَ إجاباتِ سؤالٍ منها لولا أنّ حروفَ الكتابِ كانتْ تلوّحُ لي بيدِها المقوّسةِ تريدُ إنقاذي من تكدًّسي في الفراغِ الطّويلِ.


الكتابُ -أيًّا كان- هو ذلك الفمُ الذي يتلو عليكَ أحداثًا مرّت وستمرّ، يثرثرُ بمشاعرِك التي تحاولُ إخفاءَها بقوّةٍ، تسيلُ منهُ المدنُ الجريحةُ، يحكي حكاياتِ البلدِ الصّغيرِ في الصّيفِ، وهمومَ الأطفالِ الذين فقدوا آباءَهم في شتاءِ الحربِ، ويبكي على تضحياتِ الآباء والأمّهات في سبيلِ تحقيقِ عيشٍ سعيدٍ لأبنائهما، يمشي بأرجلِه الورقيّةِ إلى أعمقِ نقطةٍ في قلبِك فينهشُها،

يعرّفُك إلى الأدبِ البهيّ، وتعرفُ منه تفاصيلَ اللّغةِ التي تتجوَّلُ في خيوطِ الدّهشةِ، تلك اللغةِ المصقولةِ بعوسجِ الشّبابيكِ والمسكونةِ بالبلاغةِ التي لا تنامُ، فتفهمَ أسرارَها ودقائقَها وفصيحَ معجماتِها!

هي الكتبُ التي تذكرُ لك أخبارَ الشّعراء -قديمًا وحديثًا- الذين تمسّكوا بالانتماءِ إلى الأرضِ، وكيف كان الشّعرُ رفيقَهم،

تفتحُ أمامَك آفافًا واسعةً لتجلسَ مع شاعرٍ منهم أو أديبٍ، يكلّمك عن تجرِبته وحياتِه ومشاعرِه وكتبِه المفضّلةِ الموضوعةِ في رفوفٍ قديمةٍ مهترئةٍ.

الكتابُ، إنّه المتعةُ الكبيرةُ التي تخلَّينا عنها في عربدةِ الانشغال وصخبِ اللّعبِ،

حينما سألتْنا المعلّمةُ في الصّغرِ عن هوايتِنا ومحلِّ انشغالِنا كانَ هوَ الإجابةُ عن سؤالها الصّغير..

ما بالُنا لمّا كبرْنا تركناهُ وحيدًا في مساءاتِ متتاليةٍ فوقَ الرّفِ تهبّ عليه الرّيح في درجِ العمرِ!


قالتْ لي أختي مرّةً إنّها شاهدتَ مقاطعَ سريعةً من فيلمٍ رأت فيه الرّجالَ والنّساءَ، والشّبابَ مهتمّينَ بالكتابِ والقراءةِ كلَّ الاهتمامِ، إلى حدّ أنّهم في أيّ مكان يُخرجونَ كتبَهم من حقائبهم ويقرؤونها،

في المواصلاتِ، وأثناءَ انتظارِ مجيء الطّعامِ، وفي الصّف والشّارعِ والحديقةِ؛ كان الكتابُ صديقَهم دومًا!

تساءَلتُ وهل نحنُ الذين نردّد دومًا "وخيرُ جليسٍ في الزّمانَ كتابُ" أيضًا كذلك؟ أرجو ذلك!

مرّةً اتّصلَ بي أحدُ أصدقائي وأخبرني عن أفكارٍ كثيرةٍ لاغتنامِ أوقاتِ الفراغِ في الإجازاتِ القصيرةِ، اللّعب بألعاب الحاسوب، الخروجِ للعبِ كرةِ القدَمِ، الاجتماع مع بقيّةِ أولادِ الصّفِّ في مكانٍ ما ثمّ نتّفق على لعبةٍ، الغمّاية مثلاً!

كلّها أفكارٌ جيّدة إذا مارسناها بشكلٍ طبيعيّ لا إسرافَ فيه، لكن أينَ الكتابُ من أفكارِنا هذه؟ لماذا لا نجتمع مثلًا فنخطّط لقراءةِ قصّةٍ قصيرةٍ سَلسلةٍ ثمّ نناقشُها في جلسةٍ حواريّة مثلما نخطّط للّعب؟

لو نقلتُ هذه الفكرةَ إليهم لسمعتُ سخريةً كبيرةً من أفواهِهم ولن ألومَهم حقيقةً؛ لأنّ بعضَنا نسيَ الكتابَ وأهميّتَه، أو لربّما وافقونني في اقتراحي.

أذكرُ حينما كنتُ في العاشرةِ من عمري أو أقلّ، طلبَتْ منّي أختي أن أقرأ جزءًا صغيرًا من قصّةٍ فرفضتُ، صفحةً واحدةً فرفضتُ، فقامَت هيَ بالقراءةِ وتركتُها تقرأ وحدَها في الغرفةِ لأنّني لم أكن أعرفُ ما أهميّةُ القراءةَ ولا كيف أقرأ؛

هكذا الأطفالُ كلُّهم في البدايةِ اللهمَّ إلّا مَن تعوّد القراءةَ وكان يسمعُها ويطلبُها، ومَن تدرَّب عليها مع والديه.

الآن، وبعد أن فتحتُ الكتابَ عرفتُ ما معنى أن يصاحبَ المرءُ أوراقًا صغيرةً فينتقلَ من عالَمٍ إلى آخر داخل حجْرته!

ومعنى أن يكونَ الإنسانُ في عزلةٍ من جدارٍ إلى جدارٍ وتنقذَه دندنةُ أشجارِ الكتاب!

أدركتُ معانيَ كثيرةً كنتُ أجهلُها..

أيضًا في هذه المدّةِ القصيرةِ، فكّرتُ قليلًا بمكتبةِ المدرسةِ، ذلك المكان الذي لا يزورُه إلّا المعلِّمونَ ومشرفُ المكتبةِ والطّلابُ حين يدعوهم معلِّمُ اللّغةِ العربيّةِ لزيارتَها زيارةً عامّةً؛ حزنتُ كثيرًا لأنّني أمضيتُ أكثرَ من تسعةِ صفوفٍ ولم أزرْها رغبةً منّي، ولم ألمسْ رفوفَها الطّاهرةَ المحفوفةَ برائحةِ الكتّابِ والمفكِّرينَ والحكّائينَ، ولم أقطفْ على مهلٍ اللّحنَ الخفيَّ المغمورَ بالكتابِ، ولو خُيّرتُ بعد ذلك لإمضاءِ ساعةٍ واحدةٍ حرّةٍ دون حصصٍ في الصّفِ لاخترتُ أن أجلسَ في تلك المكتبةِ وأتحسَّس دهشتَها، وأدعو أصدقائي كافّةً لنتشاركَ تلك الدّهشةَ المخبوءةَ خلفَ شبابيكِ الحلمِ.

فكّرتُ أيضًا بتلك المعارِض السّنويّة التي تقيمها وِزارةُ الثقافةِ والمجموعاتُ الثّقافيّة، كتابٌ حصيفٌ يُشرِبُ أنفاسَ الثّقافةٍ بسعرٍ زهيدٍ ومناسِب، أوه!

أسألُ بحزنٍ خفيفٍ امتزجَ بريشةِ الطّائرِ الذي يُوحي بالأمل:

كم معرِض كتابٍ فاتَني وضيّعَهُ كثيرون منَ الشّبابِ؟

إذا أصلحْنا حالَنا مع القراءةِ وصاحبْنا الكتابَ وصاحبَنا، لن يشكّلَ فارقًا ذلك السّؤال والإجابة عنه؛ فالعقل متى أدركَ قيمةَ الكتاب اتّجه نحوَه، وعادَ ناسيًا وجهَ المللِ وسخريةَ الفراغِ، ومبلّلًا بالحرصِ على ذلك الوقتِ القصير!


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

الهمني رائع

إقرأ المزيد من تدوينات مسابقة المقال الأدبي

تدوينات ذات صلة