اسم المتسابق: سميه وائل محمد الكسجي - فئة المسابقة: الفئة العمرية من (13-18) سنة



لطالما وارَت عينيهَا بأغلالِ منفاها متجنِّبَةً مواجَهَةَ الحقيقَة، حقيقةٌ بَدَت أشدَّ غسقًا من الدُّجى، حقيقةٌ مُثخنَةٌ بالجِراحِ، مدجَّجَةٌ بالخيباتِ، تَحكي قصَّةَ الكفرِ بلغةِ البَيان واعتناقِ لغات العَجَم! قصّة حديثة العهد ليست بتليدة، قصّة ابنٍ كانَ عاقًّا ناكِرًا، أدبرَ متخلّيًا هاجِرًا، فغدا فؤادُ أمّه فارغًا وغدت في سِجنِها تقاسي أسًى وهمًّا، وكمدًا وغمًّا، تناجيه وتناديه وترثي نفسها!

لطالَما كانت لغة المرءِ سمةً بارزةً من سمات مسيرته الحضاريّة، ووسيلة من وسائِل حفظ بقائِهِ ونموِّ هُويّته وتأصّل جذوره وتفرّعها، فإنْ هو علا علت، وإن هوى كانت من الهاوين كما قال الرّافعيّ في وحيِ القلم:" ما ذّلت لغة شعب، إلا ذل، ولا انحطَّت إلا كان أمرُهُ فى ذهابٍ وإدبارٍ". منذ بدء الخليقة، كانت اللّغة وسيلة التّواصل المُثلى بين بني البشر، يفجّر بها الإِنسِيّ- قائِلًا أو كاتبًا- براكين آلامه، وينفضُ بحسن رنين ألفاظها الغبار عمّا لطالما أخفى من أسرار أيّامه، ويقوّم بالانغماس في مكامِنها اعوجاج لسانه، فلا تكونُ رمزًا لاستقلاله وثقافته فقط بل لحياته!

لغةُ الضادّ، اليعربيّة، وليدة الصحاري ولسان بني هاشمَ، العدنانيّة، حِبرُ الشّعراء في الجاهليّة، اللّغة العربيّة، لغةٌ عتيقةٌ ضاربةٌ في القِدَم تعود إلى أزل البشريّة حيثُ إسماعيل ابن إبراهيم عليهما السّلام، أمتنُ الألسنة وأرقّها، وإحدى أكثِر اللّغات تفرّعًا واشتقاقًا! لغةٌ سطّرتِ القرآن فخلدت بخلوده، وكان لها من نصيبِهِ في الصّدارة والقدسيّة. امتدّت جذور العربيّة امتدادًا موغلًا في أقصى الأرض وأدناها، واشتهرت مرتبطةً بسيولِ العلمِ الّتي دفّقها المسلمون على العالم القديم، حتّى غدت لغة 6.6% من سكّان العالم تقريبًا.

بقيتِ العربيّة الواسِعةُ في معجَمها واسعَةً في مداها يلتمسها كلّ من التمَسَ حفنةً من علمٍ انفردتْ فيه، وما أكثر العُلومَ الّتي انفردت فيها! حتّى صارَت -بين ليلّةٍ وضحاها- عارًا يُندى له الجَبين، لغةٌ خصبةٌ لطالما انعقدتِ الألسنة عند وصفها غدت يابسَةً هشيمةً كأنّها قطعةٌ من سقر، تُواسي نفسَها غاضّة النّظَرَ عنْ عَثَراتِ القَدر، محاوِلةً بَعثَرَةَ طموحِها فِي العودةِ إلى رحمِ الحياة!

أخذت مكانَةِ اللّغة العربيّة بالتّراجع في نفوسِ أبنائِها منذ العقود الأُولى من القرنِ العشرين بالتّزامنِ مع الاستعمار الثّقافيّ -المستتِر وراء مسمّيات الانتداب واستعمار الحمايَة أو الوصايَة- والّذي أخذ يطعَنُ العروبةَ في مَقتَلِها من حيثُ سمِّيَ العرب عربًا، من اللّغة والثّقافة والهُويّة! فعمِلتِ الحملَات الغربيَّة جاهدةً على مرّ العقود والقُرون الماضيّة على إضعاف روح الشّرقِ وإعجاف جَوهَرِه، وكانَ لأتمّ اللّغات نصيبُ من سنينِ العُربِ العِجاف!

إنَّ أيَّ حربٍ تستهدِفُ الجانبَ المعنويَّ من الحضارة حربٌ عضال، لا تفوزُ بها السيوفُ ولا النّبال، حرب العقول على العقول، فلمّا هُزمتِ تلكَ الباغيَة وخفّت موازينُها غيّرت موازين الحرب ضامّةً إلى صُفوفِها ثُلثي أبناءِ تلكَ الحضارَة، فكأنّما أحرقَ الفارِسُ قلعَته وكأنّما عَقَرتِ الأُمُّ رحمَها! لغَة شامخةٌ كجدار مَكين شاطت في رماحِ الدّهر بنيران صديقة، وأضْحتْ بتلك النّيران عبئًا ثقيلًا يَحولُ دونَ رقيّ العالمين! نيرانٌ أفقرَتْ لغةَ لطالما كانت بِدُرّها تغنيها، قيّدتها وبتهمَةِ العُقم رمتها ولو كانَت عقيمَةً ما تضرَّر العالَمُ حتّى قاموا يفتّشون عن آفةٍ فيها، نيرانٌ خَذَلَت تاريخَها فَخُذِلَت وذهَبتْ ريحُها وشظاياها تنَقّبُ في البِلادَ عن لغةٍ تحكيها!

"تحتضر ويزعجون احتضارَها بضجيجِ الاحتفاءِ بها" الظاهر لبيب، تنقَرِض وآلاف اللّغات انقرَضت وانقرضَتْ مَعَها آلاف السّنين من الحضارَة، يُتَرجِمونَها وبيانُها لطالَما ضاعَ في التَرجمة، وبلغات العجَمِ يقارِنونَها وقد سَمت عن المقارنة، إنْ يقتل سائِرَ اللّغاتِ عيبُها فعيبُها أنْ لا عيبَ فيها!

إنّها حتمًا لا تزالُ مشتاقةً لَنا، توّاقةً بشدّة لعِناق ألسنتنا، تسألُنا فكّ الوثاق، لأم الجِراح وبتر مسبّبات الألم، فلندعها تحيا ولنحيا في ظلّها بلسان فصيح وبيانٍ بليغ، ولنستقم وبها فلنعتصم وإلَّا صِرنا -ونحنُ أمةٌ انسَلخت عن جلدها- أرذل الأمَم، وليغفرِ الله والتاريخُ واللّسانُ والرّاحلون لنا أنّا قد رَفَعنا بالنّصب ونصبنا بالجرّ ولم نفرّق بينَ المجرّد والجَذر، بدّدنا بالأعاصير القوافي و بالأساطيلِ البُحور، هجرنا وخذلنا وبراكينَ العِلمِ بالجَهلِ أخمدنا! فليغفرِ الله والحاضِرُ واللّسان واللّاحِقون لنا أنّا كنّا الخائبين، بئسَ الخلف لخير سلف.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

مشاءالله تبارك الله

إقرأ المزيد من تدوينات مسابقة المقال الأدبي

تدوينات ذات صلة