رسالة إثبات وجود.. من رشة ملح موجودة لا تذوب.. إلى رشة فلفل غير قابلة للذوبان!

تعازيّ الحارة يا عايدة – لا على وفاة قريبتكم ولا خالد الفيّومي وحدهما، بل تضم التعازي كل من توفاه الله بسبب جائحة كورونا في مصر (التي ما زال بعض أهلها يتعاملون مع الأمر باعتباره نكتةً أخرى)، وفي كل مكان من العالم. تشريح الموت في كلمات غير ممكن، سواء كنا نملك ثمانية وعشرين حرفا أو عشرين ألف حرف. لذا، سآخذ جانبًا آخر، وأربطه بآخر محاورة تمت منذ دقائق بيني وبين صديق من بلادٍ بعيدةٍ لم أحادثه من عصر الهكسوس.. كتب يهنئ ببداية السنة، ثم أضاف كلمتين: طال الغياب.

تنّحت. أيوه يا عايده، تنّحت عند مفردة (الغياب). ثم كان ردّي دون ترتيب: ولكن، هل نحن موجودون حقًّا؟ أم أننا نتوهّم ذلك؟

سرحتُ في السؤال، وأغلقتُ مربّع الدردشة عالمةً بأنني لن أتلقى أي إجابة الآن لفرق التوقيت، بل إنني لا أريد إجابةً مباشرةً على سؤالي.. أريد أن أسرح.. أيوَه، أسرح! أوّل عبارة خطرت على بالي كانت: "ولا كأنّه الهَوا". عبارة نقولها عندما ننفي "وجود" شخصٍ أمامنا، ننفي حضوره أو التفكير فيه. ماذا عن الهواء نفسه! أليس موجودًا؟ إنه موجود لكنّنا لا نراه. بعيدٌ عن العين.. بعيدٌ عن القلب. آه! هذا مثلٌ آخر. ماذا عن العميان؟ أولئك الذين حرمهم الله نعمة النّظر، أهذا يعني أن كلّ موجودٍ بالنسبة لهم هو "محسوس" أو "مسموع"؟ هل وجودي منفيّ في حضرةِ الأعمى إلا إذا تكلمت أو لمستُ يده مثلا؟ تكلّم.. تكلّم كي أراك، إنها مقولة سقراط. أهذا يعني أنني في صمتي غير "موجودة"؟ آخ!

حسنا يا عايده.. ماذا عن ملايين البشر من حولنا؟ البشر النّمليّون هؤلاء، الذين أحصيهم رقمًا ولا أعرفهم معرفةً تُثبتُ "وجودهم" في ذاكرتي، ولا تثبتُ وجودي كذلك في ذاكرتهم! أيكونون مثلما قال الشاعر دعبل الخزاعي: ما أكثرَ النّاس لا بل ما أقلّهُمُ/ الله يعلمُ أنّي لم أقُل فَنَدا.. إنّي لأفتحُ عيني حين أفتحها/ على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا!

منذ عامين قرأتُ كتابًا عنوانه (كم صديقًا يحتاج إليه المرء؟)، وقال إن القبيلة لا يزيد عدد أفرادها عن 150 تقريبا؛ لأن ما فوق ذلك يسبب انحلالا في روابط القبيلة الاجتماعية، وتحتاج القبيلة إلى انقسامٍ جديد وتكوين قبيلة أخرى، أما بالنسبة للشخص الواحد فإن الدائرة تضيق لتصل إلى 10 أشخاص. باختصار.. العلاقات الإنسانية مرهقة، مستنزفة.. ويجب علينا لكي نضمن وجودنا أن "نلغي" وجودَ الآخر.. ولو مؤقّتًا.. ولو وهمًا!

كم شخصًا شطَبتِ يا عايده من قائمة "الموجودين" في حياتك؟ أقصد أشخاصًا كانوا موجودين.. لكنّك قررتِ في لحظةٍ ما أنهم ما عادوا كذلك. لا أقصدُ تلك الأشهر الستّة التي فصلتُ فيها (التيليباثي) معكِ ولم تعد أخباري تصلكِ في أحلامك، ولا أخباركِ تصلني في أحلامي.. لا، لا، أقصد ما نفعله بأولئك الذين نريد أن نمسحهم نهائيًّا.. كأنّك جمعتهم في طِشت، وصببتِ عليهم سائل كلور مركّز.. اختفوا كما تختفي البُقَع، وعادتْ ذاكرتكِ لبياضها! انتفى وجودهم لكأنّ مرورهم إلى جانبك في مكانٍ عامٍ لا يخلّف أدنى أثر. تلك المساحة التي يتحرّكون فيها لم تعد تتقاطع مع مساحتك؛ سرابٌ هم إن اقتربوا منك.. سرابٌ يتحوّل إلى ماءٍ بمجرد أن يبتعدوا عنك! كيف يحدثُ ذلك؟ أتكون معرفتنا بالآخر هي التي تدخله إلى حيّز الوجود؟ وأنه دون ذلك.. غير موجودٍ بالمرّة! أنعرفهم بأشكالهم؟ بأقلامهم؟ بقلوبهم؟ بأرواحهم؟ أيّ صورةٍ تلك التي نحتاجها لنقول إنهم "موجودون" في حياتنا؟ وأن غيابهم يوجعنا ويطعن خواصرنا؟ وأننا.. لم نعد "موجودين" في حضرة غيابهم.. أو أننا موجودون ولكنّنا لم نعد نميّزنا في المرآة، ولا بين آخرين نظّن أنهم موجودون معنا وحولنا.. ويعتقدون بوجودنا بينهم!

ما صيغة الوجود المناسبة التي يمكنها أن ترحمنا من الأذى يا عايدة؟ من النّهش في الروح.. من النّحت بالإزميل في حجرات القلب الأربع لبناء صرحٍ نابضٍ بالحياة! صرحٍ لا ينهار فوق رؤوسنا ويدفننا تحته عندما ينكرنا "الوجود"، أو ننكرنا نحن!

آخ..

هل يمكنني أن أضيف سؤالا كبيرا هنا.. عن شعوبٍ مُسحَت من الوجودِ لأن حيّز وجودها مطمعٌ لوجودٍ غير موجود.. يريد أن يكون موجودًا مهما كان الثّمن!

أيكفي أن تُسرقَ "وثائق" أو "صور" أو "تسجيلات" تُثبتُ وجودنا.. فنصبح غير موجودين! وهل احتاجَ آدم إلى وثيقةٍ تُثبتُ وجوده؟ وهل كنّا سنعرفه دون توثيق الكتب السماويّة لوجوده باعتباره أوّل البشر وأبوهم؟!

ماذا عن الموتى.. الموتى الموجودين الحاضرين فينا.. الحاضرين صورةً.. كلمةً.. ملامحَ.. و... بينما لا نكاد نشعر بوجودِ الأحياء!

هل "يختفي" الموتى بغياب أجسادهم؟ صورهم؟ رائحتهم؟ أصواتهم؟ أفعالهم؟ وهل يمكن أن "يختفي" الأحياء رغم "وجود" كل ذلك؟

ما هو "حيّز" الوجود الذي نعتبره حقيقيًّا؟

عايده...!

بالله أجيبيني:

أين أجدكِ الآن! أين أجدنا؟ أين أجدهم؟ هل نحن.. "موجودون"؟!


________________________________________________________________


ملاحظة 1:

تدرسُ ابنتي لين الآن مادة العلوم بالتعلم عن بعد، تضيف الملح إلى الماء مرّة، ثم تضيفُ أوراق الشايّ المجففة مرة أخرى، قبل أن تكتبَ ملاحظاتها: الملح يذوب في الماء، لا يعود (موجودًا)، أما الشاي فلا يذوب في الماء، ويظلّ (موجودًا) في القاع.


ملاحظة 2:

سؤال إضافي يعنيني شخصيًّا: كيف يمكن لشخصٍ (موجودٍ) جدًّا فيكِ.. ألا يكون (موجودًا) معك!



رشة ملح

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

سلم قلمك ،قدنحبهم لدرجة نكون لهم وجودا داخلنا حين نعتني بكل مايخصهم لفتاتهم ،كلماتهم ،كل تقاليدهم المتوالية المعتادةهم موجودون لاننا سمحنا لهم واعطيناهم مساحة عريضة من الإنصات والتسامحولكنهم لايعنيهم ذلك ولايرونا اصلا وهذا بالنسبة للموجودين الأحياء
والراحلون موجودون في جوار القلب يشاركوننا لحظات الصعود والانخذال ،وجودهم مريح وداعم وغير مرهق على الإطلاق.
علاقتنا بهم غير مكلفة بعكس الموجودين الأحياء الغير موجودين الذين يستنزفون وقتنا ويستهلكون بعضا من بريق ارواحنا .....تحياتي نهى ⚘

إقرأ المزيد من تدوينات رشة ملح

تدوينات ذات صلة