رأسٌ مشتعل يبحث عن مرميّة.. من رشة ملح إلى رشة فلفل
أكتب لك يا عايدة محاولة استلهام كلماتي من أداء نصرت علي فاتح خان – وهو موسيقار باكستاني غنّى القوالي (موسيقى تعبدية للمتصوفة) كما لم يغنّها أحدٌ أبدا – وكذلك محاولة السيطرة على جحافل الشياطين المعششة في دماغي والمحيطة بي من رأسي لأخمص قدميّ تهمس لي بكلامٍ كثير بين شعرٍ ونثر وأنا أهشّ وأكشّ وأتحيّن اللحظة التي أخلو فيها إلى نفسي بعد منتصف الليل... وفوق كل ذلك يتصل محمد أخي ليحضر لي ابنتيه – نور وسما – للمبيت مع بناتي بما إن الدنيا إجازة يعني والناس فاضية و... يا فرحة ستّي!
أتدرين أني تخلصت من زجاجة عطر جوليا روبرتس لأنها سببت لي الغثيان آخر مرة رششت منها؟ لم أتوقع ذلك إطلاقًا، لكن يبدو أنها إشارةٌ ما، وسواء كان عطر الجزمة أم سواه البديل، فالأمر يستحق الوقوف والتأمل قليلا. لن أعلّق على رؤيتك الدرامية للوردة والحشرات، ولكن حياتنا مليئة بأنواعٍ شتى – فمنها ما يلسع ويترك أثرًا، ومنها ما يلزق ويحتاج لضربة تخلّيه (وَنْ دايمنشن)، ومنها ما تمر مرورًا رقيقًا وتعدّي كالنسيم.
رحلة جبل جيس راحت عليك، الحرارة كانت 14 درجة مئوية والأجواء منعشة. تخيلي أنها رحلة أبي الأولى – والأخيرة حسب رغبته – إلى جبل جيس؟! طوال الطريق إلى القمة كان يقارن الجبل بجبل حفيت – من حيث سرعة الوصول وسهولته، ويبدو أن الطريق الطويل أصابه بالملل ولم تعجبه المرافق الهزيلة المتاحة هناك ولا العناية بالمكان – خاصة أننا واجهنا إصلاحات طرق كثيرة وتحويلات اضطرتنا للسير في طرق وعرة عدة مرات – ولم أستطع أبدًا فهم مبدأ دائرة الأشغال العامة التي تذكّرت هذه الإصلاحات في عزّ الموسم ولم تُجرها مثلا في الصيف!
للأسف، لم تحضر زينب الرحلة كذلك لعودتها لأبوظبي، لكنها تركت في حلقي غصّة تضاف إلى غصّة، بحادثة صحن الفول في بوفيه الإفطار في الفندق الذي نزلَت فيه في دبي، حيث فوجئت بأحد رواده من "المارّين" وهو يقول للطاهي الآسيوي بالإنجليزية: هل تعلم أن الفول هو طبقٌ شعبيٌّ لـ"دولتنا"؟ ... آخذًا في تعداد الأطباق الشعبية المسروقة و....
أجل يا عايدة، كنتُ أرى دموعًا متحجّرة في عيون زينب التي أسقطت أرغفة الخبز من يدها في شعورٍ بالاحتراق والاستباحة. ولم أشعر بذلك في ذروته إلا يوم أمس، وأنا أمرّ على أحد المتاجر العامة لأجدهم يعرضون صحونًا صغيرة تحوي وجبات حمص، وورق عنب، فأقلب الطبق لا شعوريا للبحث عن (بلد الصنع).. في لحظةٍ ما.. شعرتُ أن كلّ شيء بات مسروقًا.. حتى مذاق الأطعمة التي نتناولها.. يُسرقُ منّا.. من أطراف ألسنتنا!
يوم أمس استخدمتُ آخر عروق مرميّة كانت عندي.. شعرتُ فجأةً بالرعب؛ أنتِ تعرفين كيف يتعلّق الفلسطيني بالمرمية تعلّقه بالحياة! المرمية والزيتون والزعتر – وإن كنتُ لا أحبّ تناول الزعتر ولكنّي أحتفظ له بمكانة مميزة بكل الأحوال – تخيلتُ في لحظةٍ سوداوية أن المرمية ستصبح نباتًا مُحرّمًا.. نباتًا مُحرّضًا على الإرهاب.. نباتًا يُباعُ ويُشترى في السوق السوداء..
تذكرتُ تلك القصة التي ترويها الجدّات عن محاولة الاحتلال الصهيوني إصابة نساء المخيمات الفلسطينية بالعقم بإضافة دواء مسبب للعقم إلى مياه الشرب، ليفاجؤوا لاحقا بولادة النساء للتوائم. قيل يومها إن المرمية التي يضيفها الفلسطينيون على مدار اليوم للشاي، ويعالجون بها معظم أوجاعهم وأمراضهم هي التي أبطلتْ مفعول الدواء، وعكسته!
تخيلتني في غرفةٍ سريّةٍ معك وزينب ورولا نشرب المرمية خفية! في محاولةٍ أخيرة للمحافظة على هويتنا، أو فلنقل.. للنجاةِ بها!
يا إلهي يا عايدة! ذلك الطاهي الآسيوي كان يهزّ رأسه مستمعًا.. ولم يكن يدري أن جماعة السائح إيّاه سبقَ لها أن أشاعتْ في زمانٍ مضى أن طاغور نفسه لم يكن هندوسيًّا بل يهوديًّا.. محدثةً بلبلةً بين الهنود شغلتهم فترةً لنفي ذلك على طريقة (ولّع ولّع..)، وها نحن الآن نقف هذا الموقف، وسنقف أكثر من ذلك..
لستُ سوداويّةً ولا متشائمة يا عايدة، كنتِ تتحدّثين عن الحشرات، وسأحدّثكِ عن الجَراد، الجراد الذي لا يحطّ على مكانٍ إلا ويحطّ معه الخراب، لعلها مسألة وقتٍ قبل أن نسمع أحدًا من "المارّين" يدّعي بين الناس أن الماجدي بن ظاهر لم يكن إلا يهوديًّا هو الآخر، وأنّنا اضطهدناه وأجبرناه على اعتناق ديانةٍ أخرى، وعلينا الآن أن ندفع الثمن!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
فعلاً كل ما تنذكر الميرمية أتذكر صديقاتي الفلسطينيات، وعلاقتهن القوية بالميرمية