بقصد أو دون قصد.. صنعنا عالما قاسيا وحشيا، خال من أي تعاطف أو حب.

حين أتأمل الممالك القديمة وما أسسه أجدادنا الأولين من حضارات ذكية دون الحاجة أن تكون إلكترونية، وبالرغم من عدم سيطرة "الذكاء الاصطناعي" على تفاصيل حياتهم، إلا أن الفضول وحب الاكتشاف والمعرفة، كان نهجهم، ما مكنهم من بناء حضارات مليئة بالأسرار والجمال والعجائب، استطاعوا الاستدلال على قوتهم من رؤية انعكاسهم في الأرض والسماء، واكتشافهم أنهم جزء من الله، والأهم أن القانون الحاكم كان "من وإلى الطبيعية يعودون".


ولكن اختراعنا لكل هذه التكنولوجيا مؤخرا، أسس لعهد جديد، أصبحنا نعيش في زمن أكثر رفاهية وكسلا لكن أقل إبداعا وجمالا.

لقد حلت الآلات مكان الإنسان في الكثير من المجالات، فأصبح العالم قادر على توفير إنتاجية أكثر لكن إبداع أقل، ببساطة نبيع أرواحنا مقابل المزيد من الوهم.

حلت العولمة، لتصنع نسخا متشابهة منا، نظام لا يحترم روح الاختلاف والإبداع الذي يميز كل فرد .

العولمة جعلت تحدياتنا ومعاركنا اليومية مقتصرة على البحث عن رغيف خبز، متناسيين أرواحنا وأحلامنا وتساؤلاتنا التي لا تنتهي، يعيش الفرد منّا داخل فقاعة رفاهية، يرهن روحه، وقته، إبداعه، شغفه وأحلامه مقابل فتات.

مجرد وهم، قادر على سلخ الروح عن الجسد، فيتحول الإنسان مع الزمن لمجرد "آلة" قابلة للتغيير والتهميش، لا قيمة له.

العولمة حولتنا لآلات غير قادرة على تحديد احتياجاتها الحقيقية، فبتنا نحتاج ثيابا أكثر، وسيارات فارهة أكثر، وماديات لا تشبع جوعنا أبدا، نبحث عن وهم الحب الذي لا يروي ظمأ قلوبنا.

وتناسينا الجانب الإبداعي منا، حتى فقدناه تدريجيا.


اليوم .. في هذا العصر الجديد

بتنا نؤمن بأديان لا نصدقها ولا نتعمق بها وبتفاصيلها، ونرتل آيات لا نشعر بها، نقتلع الأشجار ونستبدلها بلوحات صناعية فارغة من أي روح أو معنى.

نبني "ناطحات سحاب" خالية من أي جمال، مجرد مصفوفات مرصوصة بجانب بعضها، خالية من أي عمق أو فكرة.

نسن قوانين لا نطبقها، حتى أن حمورابي بريء من دساتيرنا.

توقفنا عن بناء قلاع أو حصون، أو معابد نزخرفها برموز نؤمن ضمنا أنها قادرة على حمايتنا،

معابد نرقص بها ليلا لنتقرب من الآلهة طربا وفرحا وحبا.

لقد توقفنا عن الرسم واستخدام الألوان في حياتنا، حتى أن ألوان الطيف باتت موضع شبهة أخلاقية وثقافية.

توقفنا عن تأمل النجوم ليلا و جمال آتون نهارا.

استبدلنا كل ذلك، برفاهية زائفة وأفكار مسمومة وكسل قاتل.

تركنا باحات ديارنا وجمال نسيم الهواء لنسكن شققا أشبه بعلب كرتون صغيرة ومكيف يزودنا بهواء سام.


بقصد ودون قصد .. صنعنا عالما قاسيا وحشيا.. خال من أي تعاطف أو حب.

علاقاتنا الاجتماعية باتت معقدة أكثر، قدرتنا على التعاطف مع بعضنا أصبح أصعب، تقدرينا لإبداع الإله بات معدوما.

حتى أننا توقفنا عن البحث عن معنى الحياة.

لم يعد هناك أحد يتحدث عن إكسير الحياة وحجر الفلاسفة.

نملك الكثير من التطور، لكننا لا نعرف أبدا كيف وصلنا إلى هذا التطور.

نملك أجهزة أذكى منا دون أن يكون لدينا أي فضول لمعرفة كيفية عملها واختراعها.

مكتباتنا مليئة بالكتب التي لا نقرأها

والمعرفة متوفرة في محركات البحث لكنها ناقصة وموجهة ومبرمجة ومشوهة.

وبات جوهر حياتنا مفقودا.

كان الناس قديما أقرب للطبيعة، متماهيين مع "الخالق" وكل جمال يصنعه.

لم يكن عالما قائما على شيفرات أو على رقمي (0 و 1).

كنا قادرين على بناء معجزات وممالك ضخمة، نصنع ألوانا قادرة على الصمود آلاف السنين، كنا نقدس الروح تماما كما نقدس الجسد البالي الفاني.

كنا نؤمن بقوتنا .. بالآلهة .. بأساطير ورموز يعجز العقل أحيانا عن تفسيرها.

كنا نؤمن بقيم وأخلاق بعيدا عن العجرفة والمال.

كان الإنسان قديما يعلم حتما "سر الحياة" .. الذي تم تحييدنا عنه مع الزمن قبل أن يتم تحويلنا لآلات تعمل لخدمة نظام مادي فمل.

أتساءل .. إن كان هناك فجوة مفقودة بيننا وبين القدماء !

إن كان هناك معرفة أُخفيت عنا قصدا، إن كان هناك ما لا نعلمه عنهم وعنّا ..!

كيف تم تحييدنا عن الطريق، لماذا لم نكمل رسالتهم بعد كل هذه السنين!

من سرق منّا إنسانيتنا وبدّل تعاطفنا بقسوة.. وحبنا كره .. واندفاعنا خوف!

كيف فقدنا شغف الأولين وعلمهم وإبداعهم!

كيف لنا أن نعود للسراط المستقيم، أن نتحرر من كوننا عبيد في الجحيم..

عبيد لكل ما لا يحملُ روحا ولا قيما!



ربا عياش

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ربا عياش

تدوينات ذات صلة