هل حقاً يصرخ المريض ويتشنج فى الجلسات كما صورته السينما أم أن هذا محض خيال المخرج؟

فى فبراير 2012 كنت أعاني بشدة من التقلبات المزاجية، فقررت الذهاب إلى طبيبي الحالى، وبدأت رحلتى معه. وبعد شهرين دخلت فى مشاجرة مع أول بنت عرفتها وحبتها(من الإسماعيلية) وتحت مفرمة التقلبات قُلت كلام آلامها وجرحها، وانتهت علاقتنا. بعدها دخلت فى نوبة اكتئاب حادة استمرت حتى 2015. وخلال الـ3 سنين دول، الدكتور جرّب معايا كل مضادات الاكتئاب، والنتيجة لا شئ.


وفى أواخر نوفمبر 2014 عرض عليا إنى اتعالج بالصدمات الكهربائية، وهى بتُستخدم لمرضى الهوس الشديد او الاكتئاب الحاد. قالى انه علاج مذهل، وأنا كنت ساعتها فى عرض أى شئ يطلّعنى من الاكتئاب واعراض العلاج البشعة، فوافقت.


للأسف بسبب السينما؛ فالناس واخدة فكرة مُشوهة جداً عن الجلسات. وفى الحقيقة هى مش كده خالص.أنت بتكون صايم قبلها بـ6 ساعات على الأقل، وبتاخد “بنج” بينيمك لمدة 3 دقائق، وبعدين بيوصّل الدكتور قطبين فى كل جهة من الدماغ، ويبدأ يمرر تيار كهربائي خفيف لمدة دقيقتين. مافيش تشنجات ولا جسمك بيقعد يتهز وتصرخ ويربطوك فى السرير ، ده كان بيحصل زمان.

باختصار مافيش ألم نهائي لإنك مُخدر. بس احتياطاً بيحطوا بكرة شاش فى فمك، تحسُباً لو سنانك قفلت فتقفل على البكرة مش على لسانك. وبعدها انت بتصحى وتروح. الجلسات نتايجها سريعة وبدون أعراض جانبية تقريباً (ممكن شوية صداع طفيف، أو نسيان مؤفت وبعدين بتستعيد الذاكرة).


أمي عرضت إنها تروح معايا بس أنا رفضت عشان صحتها ضعيفه وبتروح السوق بالعافية. كنت خايف وقلقان واللى فى بالى الأفلام المنيلة وتخيّلت منظرى وحسيت إنى محتاج قوى حد جمبي، بس المشكلة الكبيرة إنى عندى فوبيا من الحُقن (فيما بعد اليوجا خلّصتنى من المشكلة دى) فكانت الممرضة والدكتور بيطلع عنيهم ونتقرف عقبال مايلاقوا الوريد، وأنا ضربات قلبي سريعة، وعرقان ومتوتر وحاسس إنى بختنق (أعراض الفوبيا) وبعد معاناة يلاقوا الوريد ويحقننوني بالبنج وأغيب عن الوعى.

بعد كل جلسة كنت بروح الطريق مشيّ (ساعتين ونصف سيراً) وأنا ببكى على حالي، وإنى لسة صغيرة وبيتعمل فيا كده أومال لما أكبر هيحصل ايه تاني؟ وإنى وحييييد ويتيم ومش لاقى حد معايا، وكان نفسي فى أى حد، أى أخ، أي أخت، أي بنى آدم، أى كائن حي، أى مخلوق حتى لو قطة أو كلب يبقى جمبي.


مرة كان في ولد معايا ومعاه أمه أخته، وكان شكله مذعور، وأنا عمّال أهديّ فيه وأقوله انه مش هيحس بحاجة، كان الألم بيعصرنى لما لاقيت أخته بتطبطب عليه وماسكة إيده وتمسح شعره وتهون عليه لحد ما البنج غيبه عن الوعى، ولإنه غاب عن الوعى فإيده ارتخت وفلتت من إيد أخته ووقعت على الأرض وكأنه قد مات.

المشهد ده، بالصورة دي، بالمنظر ده، بالهيئة دى، بالكادر ده، بالوضع ده، فى اللحظة دي، ياااااااااااه، صعب عليا نفسي جداً جداً جداً وتخيلت منظرى والبنج بيعمل فيا كده! وقبل ما أغيب عن الوعى دمعة نزلت من عيني وإذ بالممرضة تمسح دمعتى بكفها وأغيب عن الوعى.

لما صحيت؛ لأول مرة الممرضة (كانت تقريباً فى أواخر الـ30) بتسنّدني وتنزلني لباب المستشفى وقعدتني على الكرسي وهي بتسأل: علي، أنت كنت بتعيط ليه؟ ها؟. كنت تحت صدمة المشهد اللى شوفته وساكت. قالت: يابني ما تزعلش نفسك، أكتر من كده وربك بيزيح وهو الشافى، أنا بشوفك بتيجي لوحدك دايماً، فين أمك ولا أبوك ولا أخواتك؟ ها؟ أنت خاطب أو متجوز؟ فين قرايبك ولا أهلك؟.


هى قالت الكلمة دى وأنا انفجرت فى البكاء وقلت لها : أنا ماليش أهل. راحت مسكت كفي وطبطبت على ضهر، أقسم بالله أنا كان هاين عليا أسجدلها واترمي فى حضنها وأنفجر فى البكاء، وطز فى الناس، وفي اللى هيبص علينا، واللي هيفهمنا غلط، ياكش تولع الناس بالعادات والتقاليد بالذوق بالبشرية كلها.

أنا بدأت أخرج من المستشفى، فجريت ورايا وإديتني منديل وسألتني : طب أجيبلك حاجة؟ انت فطرت يا علي؟ انت ساكن فين؟ تحب أوصلك؟ وانا كل اللى جاي عليا أعيط وخدودى ودقني غرقانين فى الدموع وهى مرتبكة وزعلانة جداً وبتسألني: طب مش عاوز حاجة يا علي؟ رديت بكل مرارة: عاوز أموت. وخرجت من الباب.


بعد 12 جلسة كان الوضع الصحى متغيّر تماماً (المخ مايقدرش يتحمل اكتر من 12) وبدأت أحس بنشاط كبير، وطاقة، وتفكير، باختصار 12 جلسة حققوا فى 3 شهور اللى معملتوش الأدوية فى 3 سنين. كانت نقلة كُبرى وهائلة فى حياتي، وانطلقت بعدها فى القراءة بنهم والتأليف والنقد إلخ إلخ. وبعدها بسنة دخلت فى مرحلة جديدة فى علاجي : العلاج السلوكي المعرفى ، وده محتاج بوست لواحده. المهم حصاد الجلسات :

1 - لما عملت جروب ثنائى القطب اخذت على عاتقى إنى أوضّح موضوع الجلسات وامحو الخرافات اللى نُسجت حولها، وشددت على ضرورة أن اللى رايح الجلسة لازم ياخد أى حد معاه. وحتى عرضت للناس إنى أروح معاهم لو مافيش أى حد رايح معاهم خالص اياً كانت المحافظة اللى فيها.


2 - كنت سعيد إنى خرجت من الموضوع ده وأنا لا أحمل أى ضغينة أو كراهية تجاه القريب والغريب والاصدقاء وكل اللى أعرفهم. تقريباً المشهد اللى شوفته كسر بداخلي أى رغبة فى الانتقام، أو اللوم، لإنى حسيت قد إيه الواحد ممكن فى ثانية يفارق الدنيا، والحياة دى تافهة جداً، وإن شوية كهرباء وتفاعلات كيميائية بيغيروا مصير وقَدر الإنسان، وإن كل واحد فيه اللى مكفيه وبيعاني.

فاللى هيشيلك النهاردة مش بالضرورة هيقدر يشيلك بكرة. بعكس اصدقاء اعرفهم خرجوا من طُرق العلاج بكُره الأقارب ولوم المجتمع، وكراهية الدين والله، وقطع صلة الرحم، والنظر للآخرين كمتوحشين لا يأبهون لألم المريض.


بالعكس، أنا طلعت من الجلسات دى بمشاعر مُرققة، ولُطف وحُب وود وبقيت بلتمس الأعذار، واتقبل غضب وثورة وطباع الآخرين، بعطف أكتر على الفقراء والمساكين، وزودت فى أعمالي الخيرية، واتعلمت أرسخ اكتر الصبر والتحمُّل، وهى الصفات اللى ساعدتنى بعدها فى التعامل مع مِحنْ أمي.

3 - فى كل محنة منحة.. أصبح شعارى بعد الجلسات، لإن اللى كنت بعتبره أسوء كوابيس حياتي طلع أعظم وأهم نقلة كبيرة فى حياتي، وبسبب النقلة دى كنت قادر إنى انشأ الجروب، ويبقى عندى الطاقة والقُدرة على المتابعة وتقديم المشورة والدعم.


واحد سأل حكيم بوذي : إننى ابحث ليل نهار عن السعادة، فأين هي؟ فرد الحكيم: السعادة فى عدم البحث عن السعادة. يقصد أن السعادة مش شئ خارجي زي الثروة والسلطة والمال والجنس إلخ إلخ السعادة كما تقول هيرتا مولر (شعور يستند إلى مساهمة ذاتية كبيرة) إنك تتعلم الحُب والرضا والتحمُّل والصبر والثقة بالنفس والثبات الانفعالي، إنك تحط أهداف وتحققها فتقارن نفسك بما كنت عليه بالأمس مش تقارن نفسك بغيرك، إنك تقف بكل هدوء ورباطة جأش أمام المحنة، وكلك ثقة انك هتتجاوزها بينما كل اللى حواليك مفزوع ومرّوع، إنك رغم إحساسك باليُتم والوحشة والألم والمعاناة هتلاقى فى النهاية اكتر من شخص يقولك : بجد أنت شخص ملهم أنا محظوظ والله بمعرفتك يابنى.

عشان كده صدق نيتشه لما قال لصديقه فى رسالة : … لتكن كل التجارب مفيدة وكل الأيام مقدسة وكل الأشخاص رائعون.

ali shaheen

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

بنتي عندها ثنائي القطب والدكتور نصحها بعمل جلسات بالكهربا وهيي رافضة كيف أقنعها لإنه حالتها صعبة متأخرة بالعلاج 😢.

إقرأ المزيد من تدوينات ali shaheen

تدوينات ذات صلة