أتفقد مواضع الصمت لأفهم أكثر وأقترب قليلًا من صورةٍ لا يمنحها لنا الكلام وحده.

تحيط بنا الأصوات من لحظة استيقاظنا وحتى ننام: تغريد العصافير، حفيف الأشجار، صخب الشوارع، وضوضاء هواتفنا التي لا تهدأ؛ إشعاراتٌ هنا، وأحاديثٌ هناك. وبين الحوارات الجانبية والمحادثات الطويلة، تمر ساعات يومنا دون أن ندرك أننا، رغم كل ما سمعناه، لم ننصت قط.


في عالمٍ قضيته الكبرى إثبات الوجود، يقترنُ الحضور بإصدار الصوت. يخاف البعض من الصمت، فيملؤون الفراغ بأي كلمة لكسره، وكأنه غيابٌ للذات لا للكلمات فحسب. يراه آخرون كالوقوف في محاكمة ضد أنفسهم. لكن الصمت ليس فراغًا يبتلعنا، أو لحظةً تهاجمنا فيها أفكارنا؛ بل هو مساحة تمنحنا الحضور الحقيقي!


فكّرت مليًا في دوافع صمتي، وطرحتُ أسئلة عديدة: لماذا أصمت؟ هل كان صمتي إعراضًا عن الكلام؟ أم أنني لم أجد الكلمات التي ينبغي قولها؟ أدركت أن الأمر لم يكن لأيٍّ من هذه الأسباب. لم يكن صمتي إلغاءً لذاتي، أو غيابًا لها؛ بل كان مساحةً أردتُ منحها للآخر، وللعالم من حولي، ليحضر في نفسي حضورًا كاملًا.


الصمت حضورٌ نبيل يتجلى بأخذ خطوة للخلف، بالتوقف عن شغل حيزٍ - حتى داخل أنفسنا - ليكون للآخر كل الانتباه. حضورٌ نحتوي فيه روحًا تخاطبنا وترجو أن يُنصت لها أحد.


حين نصمت، نسمح لأنفسنا أن ننصت بوضوح، ليس فقط لأصوات العالم من حولنا، بل للصوت في أعماقنا. الصمت ليس هروبًا أو انسحابًا؛ إنه اختيار لقلبٍ يريد أن يرى ويسمع ويعيش تجربة الحياة بعمق. إنه لغة محبة، وفعل إنساني يقول للآخر: “أنا هنا، أراك، وأُنصتُ إليك.”


في زحمة الحياة، راقب صمتك. اسأل نفسك عن دوافعه: هل تُنصِت بما يكفي؟ أم أن الأشياء من حولك تسرق انتباهك بسهولةٍ عن الآخر؟ هل منحت نفسك أو إنسانًا آخر الفرصة ليحضر بأكمله فيك؟ وليكن الصمت من الآن فصاعدًا ملاذًا ومساحة للحضور، ووسيلة لرؤية نفسك والعالم من منظورٍ مختلف. ففي الصمت، أحيانًا، كل الإجابات التي نبحث عنها.


Wedad Alshammari

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات Wedad Alshammari

تدوينات ذات صلة