في مقهىً ما جمعتنا صدفةُ كتاب، الى أين يمكِن لِمثل هذه الصُّدفِ أنْ تؤول بِنا ؟!! "سِوار"
غادرتُ حينها معهد اللغات في وقت مبكر وليس كالمعتاد، وبِما أنني أشعر بِتثاقل غريب، وملل لم أعهده من قبل، قررت أن أميل بِخطواتي نحو المقهى المجاور، ذاك الذي اعتاد على زيارتي له في أحْلك المشاعر، وأسوأ الظروف والأوقات، فقد كان يشفيني الجلوس فيه يحتضني أحد أركانه بعيدًا عن تلك الضجة التي تملؤه.
وكما جرت العادة، لمْ أغفل عن اصطحاب كتابٍ ما بِحوْزتي لِيشاركني جلستي.
أمّا عن الشيء الذي يُؤرّقني كلما جلست هناك، أنّني أجد بقايا قُصاصاتٍ ورقية وآثار حبرٍ على الطاولة، فيُولد لديّ سؤال ينخر دماغي.. مَن ذا الذي تجرَّأ على حُرمة زاويتي واعتدى عليها، ألم يعلم أنّ للأماكن حُرمةً كما لِأصحابها؟ أيّ شخص هذا؟ وأيّ جُرأةٍ تلك التي تتملّكه؟؟
اعتدت وجود آثارٍ دخيلة في مثل هذه اللحظات، فلم آبه بها كثيراً على الرغم من انّ فضولًا ما يُغلّف خلايايَ الدماغية يدفعني لِأتحرّى شخص هذا الدخيل، وأدرك السبب وراء هذه الآثار. تركتُ كتابي وحقيبتي على الطاولة، وتوجّهت لِماكنة المشروبات قاصدةً الحصول على ما يكفلُ ازاحة عبء العمل والدراسة وكل ما يرهقني عن أكتافي
.سيّرت خطواتي كي أعود لكتابي وأُكمل قراءته بِرفقة مشروبي، بيْد أنّ ذلك لم يكن !!
تسمّر جسدي في مكانه ولم يقْوَ على الحركة، وكم كنت مُمتنّة ليديَّ الصغيرتين اللتين استجمعتا كل ما أُوتَيا من قوة، فَكانتا حِصنًا لِما يحمِلن، وإلا لَتورّطت في موقفٍ لا أُحسَد عليه.
ما مرّ من وقت لم يتجاوز الثّوانِ، لكنني كنت أحسبُها من فرطِ الدهشة دهراً. بِكل ما ملكت من قوة جرَرتُ قدماي مشدوهةَ البصر.
لم يستشعر مجيئي مُنشغلًا بِكتابي الذي يحتضنه بين أصابعه ويحدّق في سطوره بِشغف، واضِعاً إحدى قدميه فوق الأُخرى.
أزحتُ الكرسي المقابل له، وجلستُ عليه متشابكة اليدين أسند بها ملامح وجهٍ تحلّق حولهُ علامات استفهام كثيرة، أنتظر خروجه من عالم الكلمات الذي غرق به منذ لحظات، لا أعلم متى بدأت ولا أنّى لها أن تنتهي.
مرّت الدقائق، انتهيتُ من شرب قهوتي، وشرعت في قراءة كتابٍ الكتروني كنت قد احتفظت به في ذاكرة هاتفي مُسبقاً، وما زال متمسكٌ بِكتابي، تشدّني رغبة المغادرة من جهة وكتابي بين يديهِ يشدّني من الأُخرى.
حسمت أمري، وعزمتُ على نزعهِ من بين الصفحات والسطور، فَبِنبرةٍ حازمة وأنا أهُمّ بالمغادرة قلت: "بِامكانك ترك الكتاب في أمانة النادل عند انتهائك من قراءته" ثم غادرت.
لم أُكمل من خطواتي الكثير، وإذا بي أسمع صوتاً مُناديًا وأجزم أنه صوته: "سِوار، لِمَ العجلة؟"
تشبّثت أقدامي بمكانِها تسأل الثبات، ولم أدرك ما يجدُر بي فعله، أُكمل دربي أم أُجيب؟ لا أدري لِصالح مَن مِنَّا سيكون رد الفعل؟ لكنِّي التفتُّ إليه بِوجه غشتْهُ ملامح الدهشة، فابتسَمَ بِخفّة ثم قال: "رويدكِ، لن تغادري دونه ".
بِذات الدهشة المصحوبة بِالصمت جلستُ قُبالته، أسندت جسدي ووضعتُ هاتفي وحقيبتي جانباً، وأدركتُ أنّ معركةً حواريّة ما ستبدأ عمّا قريب.
_ "رويدكِ"، ثم عاد ليكمل قراءته.
بمزيدٍ من الصمت، عدت أُحدّق بالفراغ من حولي "كعادتي إن أردتُ التغافل عن أمرٍ ما"
_ أهذا الكتاب لكِ؟ أعجبني عنوانه.
لا زال الصمت يطوّقني، خليلي في المواقفِ صعبةِ المَراس.
_ سِوار، يبدو أنك تحبين القراءة والكتابة أيضاً، فتاة صغيرة في ال17 من عمرها، لديها كل ذلك الأُفُق، كل ذلك الاستثناء، وكل ذلك الغموض أيضاً!!
أجزُم أنني قرأت تلك الكلمات التي يتفوّه بها من قبل؟ ولكن أين؟
تذكرت.. كانت هذه كلمات صديقي على صفحة البداية في كتاب أهداني إياه قبل أيام مضتْ، "سِوار، فَتاتي الصغيرة، كاتبتي المبدعة، قارئتي المُلهِمة الشّغوفة، صاحبة الأفق المُزهِر بِروحها الاستثنائية وغموضها المُلذّذ، استمرّي في طريقكِ نحو ما تصبو إليه روحك، وأنا بِكامل ثقتي بك، مُتيقِّن أنك ستكونين شيئاً عظيماً يُزيّن عالمنا.
الصغيرة والكبيرة في آنٍ واحد، تذكري دومًا.. كل شيءٍ في الكون موجود داخلك، فاطلبي من نفسكِ ما أردتِ".
_ لِمَ الصمت؟ أين أبحرت بكِ سُفنُ أفكارك؟
لا شيء، بيْد أنني نويتُ المغادرة.
أكملَ قائلاً: "كَقارئ، أخمّن أنه ربما ليس لديكِ من الوقت ما تمنحينني ايّاه، ترسمين خارطة يومكِ من صباحه حتى المساء، هكذا علّمتكِ القراءة" ولكن هل لي بِسؤال إن سمحتِ؟
كان حديثه مُطوّق بِبعض العقلانية والرَّصانة التي تلمسها بِسلاسةٍ من أول مرة.
_ إذاً، لم تخبريني بعد، أحقاً ما قرأته على مقدمة الكتاب؟
استعدتُ انتظام أنفاسي، ثم أجبت: "أجل،هو كذلك"
نظر مبتسمًا كَمن خرج يرفرف بِراياتِ انتصاره من معركة صعبة، ذاك لأنني أكّدتُ له صحة قولِه فقط.!!
_ جميل جداً، كاتبة في مثل عمرك، 17 ربيعاً، رقم بسيط بجانب كاتب وقارئ!!
انّ الوعي في العقول وليس في الأعمار، فعقولنا حصاد فهمنا وقناعاتنا في الحياة، أمّا الأعمار فما هي إلا تعداد أيام عشناها.
أكمل سؤاله: وماذا عن بساطتك؟ فتاة تغلفها البساطة في تصرفاتها وملامحها وحتى كلماتها، لم يتغير فيك شيء مُذ رأيتك لِأول وهلة قبل أشهر عدّة، سوى عنوان الكتاب الذي تحملينه بين يديكِ.
يراقبني كلما ارتدت هذا المكان، ملاحظًا بِذلك تغير الكتاب الذي أحمله، شخص يملؤهُ الفضول.!!
ليست بِالبساطة والغموض، انّها بالعفويّة الصادقة والعاديّة المُلفِتة، فلكل منا أسلوبه وطبيعته في عيشه وتعايشه مع مسارات حياته التي تُميّزه عن غيره.
_ حسناً، هذا لا يهم، أحقاً تحبين القراءة وأنت في مثل هذا السن؟
لِم لا؟
_ وتحبين الكتابة أيضاً، أي أنَّ لك ما تكتبين ؟ سواء خيالاً أو حقيقة؟ قصة؟ قصيدة؟ شعر؟ مدونة؟ لك كل ذلك؟
كان يتحدّث بِحروفٍ متسارعةٍ متضاربةٍ كَمن أصابته صدمة كهربية..
لا.. أحرفٌ متناثرة، تلملم شتات بعضها في نص، أسطر قليلة الحرف والمعنى، لم تصل حدَّ القصيد المُنظَّم بعد.
أنهيتُ جوابي، وإذ بِها تهاتفني، تلك التي تخشى عليّ من النسيم إن اشتد في الأرجاء، فلا عجب أنها ستخشى عليّ إن تأخرت ولو لدقائق معدودة عن البيت، استأذنته لِأجيبها..
_ السلام عليكِ صغيرتي.
وعليكِ السلام أمي.
_ أين أنت الآن؟
لقد أنهيت محاضرتي مبكراً، وأنا في المقهى الآن.
_ دمتِ في حفظ الله صغيرتي، لا تتأخري عليَّ، وكوني بِخير.
لا تقلقي، دقائق وسأغادر، فليطمئن قلبك الوردي.أ
مي وخوفها المتزايد عليّ، النّابع من حبها، لا، بل عشقها لصغيرتها، تجدها كلما خرجت لِعلمي أو عملي، ترافقني دعواتها الطاهرة كطُهر روحها، لم أتذمر يوماً من مُهاتفتها وأنا في ذروة انشغالي، تجدني ألتمِس في صوتها الراحة وسكينة الروح بعيداً عن صخب العمل، وكل ما يحيط بي من معلومات وأوراق تفتقر إلى الترتيب، وأصدقاء يُبحرون في أشغالهم كما أنا.
وجدني أنهي حديثي معها، ارتديت حقيبتي وأمسكتُ بِهاتفي ثم قلت: يجدر بي المغادرة، فرصة سعيدة.. ثم غادرت.
_ على رُسلِك، هذا لكِ .
شكراً.
_ ولكِ أيضاً، على صفحات الكتاب التي منحتِني إيّاها. صدفة جميلة جمعتني بكِ وبِكتابِكِ اليوم، أرجو رؤيتكِ مرة أخرى، في ظل أحوال أفضل ولقاءٍ أكثر تأنِّيًا، إن شاء الله.
ما كان مِنِّي إلّا أن ابتسمت، وغادرت.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
❤️