لحواراتنا الداخلية مع أنفسنا دورٌ كبيرٌ بالتحكم في أفعالنا، ومن لم ينجح بإدارة تلك الحوارات سيجد صعوبة بالغة في تطوير نفسه.
تطرقتُ في الجزء الأول من هذه السلسلة إلى المسارات الثلاثة الخاصة بتطوير الذات، وبيَّنتُ مدى أهمية الإلمام بثلاثتهم، والقدر الذي نحتاجه للوصول إل هدفنا المنشود في تحسين ذواتنا والارتقاء بشخوصنا إلى الحد الكافي الذي يمنحنا الثقة في أنفسنا، كما وأجملتُ كذلك أهم السمات التي يمتاز بها الأشخاص الدؤوبون على تطوير أنفسهم عمَّن سواهم، ثم أوضحتُ لكم بعنايةٍ الفرقَ الدَّقيق بين شِقَّيْ القدوة الصالحة ( الطموح والمقارنة ) والَّذَيْن لطالما أشكل على الكثيرين التمييز بينهما، حتى ألبسوهما ثوباً واحدا تحت مسمى (القدوة)، ولكنَّهما باتا الآن لكم أكثر وضوحاً وأظهرا لكم جليًّا كم أن المسافة بينهما بعيدة؛ بعيدة بالأسلوب والنهج والنتائج والتأثير، على الرغم من ارتدائهما الثوب نفسه ( ثوب القدوة ).
بإمكانك النقر هنا للاطلاع على الجزء الأول
أمَّا الآن، فإنني كنتُ قد وعدتُكم في الجزء الأول من هذه السلسلة أن حديثَنا في الجزء الثاني منها سيتمحور حول المسارَيْن الأول والثاني من مسارات تطوير الذات ، وسيكون الأمر كذلك من خلال بعضٍ من الخواطر المنفصلة والتي توفر لك رحلةً صريحةً مع عقلك الباطن؛ لتراجع ذاتك وتُنقِّحها، فتُثْبِت السليم في نفسك وتؤكده وتعمل في ذات الوقت على تقويم ما اعوَجَّ غصنُه في مساراتك الفكرية والعاطفية، سواءً أكان ذلك مع نفسك أو مع الآخرين.
هل أنت مستعد؟ إذن فلنبدأ الرحلة معاً:
من المطلوب أن نكيل بمكيالين في إطار تعاملنا مع علاقاتنا، وسنظلم أحبتنا إن جعلْنا مكيالَنا واحدًا
أنت تُمثِّل قدْرًا كبيرًا من الأهمية لدى أحدهم بل قد تُمثِّل كلَّ شيءلشخصٍ ما ( ابنتك، أمك، زوجك، أختك، صديقك)، وفي نفس الوقت قد تعني القليل لدى آخرين متواجدين في محيطك، من الخطأ وقوعك في شراك الظن بأن تكون أهميتُك عند كلِّ من يتعامل معك بنفس النسبة، فتُشتِّتَ تركيزك وأولوياتك وطاقتَك بينهم، حتى تجد نفسك تلقى الجميع بنفس الوجه.العلاقات لها أولوياتها كما الأعمال والأهداف،
لذلك احرص على ترتيب أولويات علاقاتك اهتمامك ترتيب أعمالك؛ حتى لا تقف يومًا أمام حقيقة مؤلمة تُنْبِئك بخسارتك لمن كان من الممكن أن يمثِّل جزءًا كبيرًا من سعادتك بِحُبِّه وصدقه، من أجل من استوى عندَهُ حضورُك مع غيابِك.
توازن نفسي
لنحصل عل التوازن النفسي السليم ينحتَّم علينا التنقل بين الامتنان والطموح في تفكيرنا، أنظر لمن هم دونك في المستوى واحمد الله على ما أنت فيه؛ لتكون ممتنًّا لنعم الله عليك، وانظر لمن يفوقك فيما ترغب تحقيقه في حياتك؛ لتحيا إنسانًا شغوفًا ذا طموح.إياك ثم إياك أن تكتفي بأحدهما ( الطموح أو الامتنان ) فتعيش بدون امتنانٍ ناقمًا على قَدَرِك، أو دون طموحٍ مستسلمًا بحجة الرضا فتفقد الأمل والسعي.
الرضا لا يتعارض أبدًا مع الطموح ولكن ينقصنا فقط الفهم الصحيح لكيفية الجمع بينهما.
كيف تنعكس آراؤهم عليك؟
أحكام الآخرين عليك لا تُعبِّر بالضرورة عن حقيقة أخلاقك بقدر ما تُنبؤك حول حقيقتهم وطريقة تفكيرهم؛ إنها في الغالب تعكس شخصية مُطلقِ الحكم وليس متلقِّيه. أفكارهم تلك ليست مرجعيتك التي تُبَلْوِر فكرتك عن نفسك من خلالها؛ هم لم يدخلوا سريرتك ولم يسمعوا صوتك الداخلي، ولكنك فعلت.
حواراتك مع نفسك وحديثك المُوَجَّه لها يجدر أن يعبِّر عن فكرك أنت لا عن أحكامهم السطحية. كن على ثقة أنك أقدر الناس على معرفة نفسك، تعَهَّدها بالصدق والتقويم وتابع نيتك في أقوالك وأفعالك أن تكون بما يرضي الله وكفى.
إن صدّقتهم في نفسك ستجدها مع الوقت تماما كما يقولون، لذلك احذر أصواتهم تلك واحفظ لنفسك صورَتها المشرقة ووثِّق العلاقة مع عقلك وقلبك؛ فالاستماع المبالغ فيه للناس وآرائهم فيك سيمزِّق علاقتك مع ذاتك ويدمرك تدميرًا بطيئًا.
ما نوع نظاراتك هذه الأيام؟
تشكو النّاس وتُعَمِّم قائلًا: كلهم سيئون، خدّاعون، ناكرون للجميل، ماكرون.....
مهلًا مهلًا.....
انظر حولك إلى البيئة التي اخترتَ أن تكون محيطك المُقرَّب،
انظر إلى الأماكن التي ترتادها وطبيعة الأنفس التي تعاشر.
تلك الدائرة المحيطة بك تصبح مع الوقت نظارَتَك التي تبصر من خلالها العالم كله، فإن صَلُحوا رأيتَ الكون صالحًا، وإن فسدوا حكمتَ على الجميع بالفساد. الخير والشر معطيان كونيّان وهذه حقيقةٌ لامناص منها، أما إطلاق الأحكام المطلقة المبنية على التعامل مع شريحة محددة وصغيرة من المجتمع فإنها تُعدُّ خللًا فكريًا يخصُّ صاحب الحكم بل ويلحق الضرر به أيضًا.
يامَن ترى الناسَ كلَّهم أشرارًا غيِّر محيطك؛ فالخير في أمة محمد إلى يوم الدين، ويا من تراهم بالمطلق أخيارًا، خذ حذرك وكن مؤمنًا فَطِنًا.
إن كنتَ ناضجًا
عندما تتعثَّر بمواقف صادمة من صديقٍ أو شخص عزيز عليك، ستجد روحَك رافضة لوجوده في حياتك لمدَّة من الزَّمن قد تمتد أيامًا ولربما شهورًا، ولكنّك في نهاية المطاف لا بُدَّ وأن تعود ( إن كان الأمرُ قابلًا للتجاوز)، ليس لشيءٍ سوى أنك قررت تَقَبُّلَ هذا العيب فيه، وأضمرتَ في نفسك التَّسليم ببشريته، ودرَّبتَ نفسك على التعامل مع عيبه ذاك، فكونك ناضجًا الآن يجعلك مؤمنًا بأنك لو أصرَرْت على مصاحبة من لا عيب فيه سيدركك الموت وأنت حبيس فقاعة المثالية والوحدة.
هل يحمل السلبيون في حياتنا كل ذاك السوء المنسوب لهم؟
ألا تشاركني الرأي أنْ لو انعدَمَت الظروف الصعبة والأشخاص السيئون من حياتنا لشحَّت الدروس المستفادة ولَتَوَقَّفَ تطوُّرُنا السلوكي، ولما اكتسبنا الحكمة والمناعة النفسية اللازمة لمواجهة الحياة؟؟ألا زالت المعادلة غير واضحة تمامًا لك؟ حسنًا انظر إلى نفسك،
أنت لا تجد القوةَ إلَّا من قلبِ انكسارك، ولا تُصِرُّ على مواصلة الطريق إلا من بعد ضياع فرصة الرجوع إلى الخلف وفقدان الأمل من العودة في الزمن إلى الوراء، حتى على الصعيد الأخلاقي؛ إنك لا ترى سوء طباعك بوضوحٍ إلا عندما يريك اللهُ إياها مُتَمَثِّلةً في شخوص تعاشرهم لتلمح قبح ذاك الطبع وما كنت تراه كذلك وهو فيك، ولكنك عندما عوملتَ بمثله أخذتَ قرارًا حاسمًا بتقويم اعوجاجك وتصحيح مسارك، لقد جسَّدَه الله لك على هيئة مثالٍ بشري لتتَّضح لك الرؤيا.والله ثم والله إن فائدة مثل أولئك الأشخاص تفوقُ غيرهم في حياتك؛ لأنك في كل يوم ترى منهم ما تُقسِمُ على تَجَنُّبِهِ في أخلاقك، فتتهذَّب سلوكيَّاتُك وترقى مبادئك.
حساسية الاختلاف
قد تتشابه ظروفُ الحياةِ ومعطياتُها بين شخصين، إلَّا أنَّ ردَّة الفعل لِكلٍّ منهما مختلفة كلِّيًا، ألا ترى أن من المأكولات ما يناسب أجسامًا في حين تواجهها أخرى بالرفض؟
تجد أحدَهُم تتناثر في جسده بثور الحساسية من طعامٍ تأكله أنت على سبيل المثال صباحَ مساءَ بِنَهَمٍ مُطْلَقٍ ويتناسب معك تمامًا.
قد تُنعشك العزلةُ الموسميَّة وتجلب الكآبة لغيرك.
تَسْعَدُ تلك بأجواء الشراء لحاجةٍ أو لغير حاجة، وتراها أخرى منتهى الحُمق.
هذه تجد قيمَتَها بين النساء وأحاديثِهِنَّ في كل شاردة وواردة، وتكاد تلك لا تفارق عيناها الساعةَ بانتظار انتهاء ذات الجلسة.
تُهَشِّمُهم الضغوطات وتبنيك.
توهنُهم الخيانات وتقوِّيك.
وما تَعُدُّه عيبًا يباركه غيرُك ويراه مقبولًا.
لنفس المعطيات آثارٌ مختلفة باختلاف التكوين النفسي للأشخاص وتجاربهم وتنشئتهم،
ومن هنا دعونا لا نضع معيارًا أحاديًا مطابقًا لرؤيتنا نقيس به تصرفات وأفكار وحتى ردود أفعال الآخرين.
كانت هذه ومضات بسيطة حول نظرتنا للأمور في عالم مليء بالتأملات الفكرية مع الذات، والتي تتحكم في غالب الاحيان بسعادتنا من عدمها، العامل الأساسي بها هو تقبّل بشريتك وبشرية من حولك، وخَلْق مساحة كافية للتسامح مع الذات ومع الآخرين، الأمر الذي سيكون له دورٌ أساسي في تطوير ذاتك وعلاقاتك، وما هذه الأسطر إلا بداية إبحارنا في عوالم واسعة ترتقي بعقولنا وعواطفنا نحو النضوج في المقالات القادمة بإذن الله تعالى.
نلتقي قريبًا مع الجزء الأخير من هذه السلسلة (سلسلة مسارات تطوير الذات)، والذي نتناول به المسار الثالث من مسارات تطوير الذات (مسار المهارات )، للحديث حول أهم المعوقات التي نواجهها عند اكتسابها، ولربما تكون سببًا في تأخرنا عن الإنجاز. أترككم إلى حينه في رعاية الله وحفظه. للانتقال إلى الجزء الثالث من هنا
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
أشكرك جزيل الشكر عزيزتي ديمة❤️🌹
أبدعتي صدقاً ❤❤
👍👍👍👍