هل حلمت يوماً بأنك ميت وترى كل شيء؟ هل حلمت يوما بما سيحدث في قبرك بعد دفنك ؟

أصبت بمرض عضال، أو ربما تكون سكتة قلبيه أو دماغية. لا أعلم على وجه التحديد، ولكن كل ما أشاهده الان هو جسدي ممدد على فراشي لا تصدر عنه حركة ولا نفس، أمي تصرخ بشده تحاول بائسة افاقتي، التأثر واضح على وجوه إخوتي، أسمع من مكاني بكاء أختي أيضا. أخواتي يحاولن ابعاد أمي عني، لكنها تتشبث بي بكلتا يديها..

- إنه لم يمت..

لم تتوقف لحظة عن تكرار تلك الجملة.

التقويم أشاهده على الحائط: العشرون من أبريل، يوم الاثنين. لحظه هناك صوت ما أسمعه، أعرفه جيدا، أنه صوت عم مجاهد مؤذن الجامع الذي أسكن بجواره:

- انتقل إلى رحمة الله تعالى فقيد الشباب توفيق خالد أحمد، وستشيع الجنازة بعد صلاة الظهر من المسجد الكبير، والعزاء قاصر على تشيع الجنازة، ولا عزاء للسيدات.


ما هذا الذي أسمعه؟ أنه أسمي، أنا ميت الان، كيف ذلك وأنا أعي كل ما يحدث؟ أرى كل شيء، وأسمع كل شيء؟! هناك شيء ما خطأ!

أخوتي ينجحون في اخراج أمي من الغرفة، صراخها ازداد قوه، وأخي يحاول إفهامها أن ذلك سيعذبني في قبري، لكنها لا تتوقف عن الصراخ.

يدخل رجل الغرفة، ذلك الرجل أعرفه جيدا، يوما ما وقفت معه أثناء غسل أبي وقت وفاته، أنه الشيخ عبد العنان، ماذا يحدث؟ هل حقا أنا ميت، لا، ذلك لم يحدث، أنه مجرد حلم.


يخرج أخي جميع الموجودين في الغرفة، ولا يتبقى غيره والشيخ عبد العنان.

- يجب أن ننقله على المغسلة في الصالة..

قال الشيخ عبد العنان.

ماذا تفعلون، انتظروا، أنا لم أمت. يحملاني من أطرافي، ويخرجاني إلى الصالة. لا لا تضعوني عليها. انتظر يا أخي أنا لم أمت. ولكن أنا الان على المغسلة، وأخي ينزع عني ملابسي. بالله عليك أخي توقف، لا أريد أحد أن يراني عاريا.

الشيخ يقرأ بعض آيات القرآن فوق راسي، أخي يناوله مياهاً ساخنه أشعر بحرارتها، أنها ساخنه للغاية، أشعر بألمها، وكأن الشيخ قد سمعني، فخفف المياه الحارة بمياه بارده، يبدأ في غسلي، آيات وكلمات استغفار تقال فوق رأسي. لا تصدر عني أي رده فعل، كأنني قطعة من الحديد في يد حداد يقوم بتشكيلها، جسد بدون روح.

ماذا هناك؟ لماذا تغلق ذلك القماش الأبيض على وجهي يا شيخ، لن أرى شيئا، دع لي الرؤية على الأقل.


ولكني أرى بعد أغلاق الكفن، أرى أخي يخرج من باب الشقة ينادي على الرجال بحملي، الجميع يذكر الله. انتظروا ماذا تفعلون، لا تحملوني. صراخ أمي ثانية، أنها قريبة مني، من فضلك تدخلي وأخبريهم أنني ما زلت حياً، صوت صراخ نساء العائلة يزداد قوه، والرجال ينزلون بي على درج البيت، ما هذا الذي أراه؟ لن تضعوني في ذلك الصندوق، ينقبض قلبي من الخوف، بالله عليك لا تخنّي يا جسدي، وأصدر أي رده فعل، لا تخذلني الان.


يغلق الصندوق على، ولكني أري كل ما يحدث في الخارج، يحمل الصندوق أخوتي وأولاد عمومتي، متجهين إلى طريق المسجد الكبير، أرى ساره الان، الساكنة في مدينة اخرى، تبكي، تبكي بشدة. ذلك الرجل القادم من بعيد، أنه أستاذي في المرحلة الابتدائية، رافعا سبابته ناطقا بالشهادة، أحاول أن أتحاشى النظر إليه وكأنه يراني. كم من نقود أعطاني إياها أبي لأسلمها لك نظير الدرس الخصوصي، لكنني كنت أحتفظ بها لنفسي لكي ألعب بها في صالات البلياردو، أتمنى أن تسامحني.


- مع السلامة يا توفيق..

قالتها الخالة سعاد بائعة السمك وهي تبكي، كم من مره سرقنا منها السمك انا وأصدقائي حتى نطعم بها القطط التي امتلكناها ونحن صغار، لكنها لم تكن قادرة على اللحاق بنا، فهي كبيره وسمينة، وكنا نسخر من ذلك.

النعش يمر من أمام محل العم ابراهيم الجزار، أراه واقفا أمام محله وساطوره في يديه اليسرى رافعا سبابته اليمنى، مطلقا الشهادة بصوته الجهوري الذي أعتدت على سماعه، كم من مره أرسلتني جدتي إليك لشراء اللحمة، وأنت تعطيني اللحمة المكسوة بالدهون دائماً، وفي كل مره ترجعني جدتي بها إليك، وفي كل مره اسمع لعنك للزبائن.


يتقدم الناس بالنعش. أرى المسجد الان، جمع من الرجال واقفون عند الباب، جيران المسجد من النساء ينظرن على الجنازة من أعلى، مهلا أليست تلك نورهام، نعم أنها هي زميلتي في المدرسة الابتدائية، أعلم جيدا أنها تسكن بجانب المسجد، أنها تحمل طفلة في يديها. هي بنتها بالتأكيد، أتذكر الان جيدا في حصة مادة الدارسات الاجتماعية عندما راهنني زميلي أن ألمس شعرها، كنا نجلس خلفها مباشرة، فقمت بلمس طرف شعرها، الا أنها التفتت، وما عرفت شيئاً غير أن عيني قد أنارت من قوة الكف على وجهي..


النعش يقف أمام المسجد، صوت المؤذن ثانية:

- انتقل إلى رحمة الله تعالى فقيد الشباب توفيق خالد أحمد، والجنازة عقب صلاة العصر من المسجد الكبير، والعزاء قاصر على تشيع الجنازة، ولا عزاء للسيدات.

يحملون النعش بجوار منبر المسجد ويضعونه على الأرض، بدأ الناس في صلاة ركعتين تحية دخول المسجد، والمؤذن يقرر نداءه بأن الجثمان في المسجد، والصلاة على الجنازة بعد صلاة العصر، تجمع عدد كبير من أهالي المدينة في المسجد.

ارتفع الصوت في المسجد؟ ألا تستطيعون أن تجعلوا الصمت معبرا عن الحزن؟ ولكن ما أراه أنه قد اجتمع كل اثنين، وجلسا بجانب بعضهما وبدءا في الحديث عن مواضيع جانبية، ليس لها علاقة بي، أين أنا من كل ذلك؟


حتى أنت يا خالي؟ أراك واقفا أمام باب المسجد تتحدث في هاتفك عن عملك. قبل أيام كنت تلمح لي بالزواج من ابنتك. كنت سأرفض الزواج منها، لكنني لم أكن أريد أن أغضبك. أصحاب أخي الكبير تجمعوا حوله، وسحبوه معهم في أحاديث جانبية عن ذكرياتهم أيام الجامعة، أرى لحظات التأثر قد زالت من على وجهه، أهكذا يأتي الحزن سريعا ويرحل سريعا؟ ألا يجلس ويودنا؟ أم أن الامر في صاحب الجثمان؟ أحقا لم أكن أستحق أن يحزن أحد على؟ ولكن مهلا أنا أسمع صوتا الان يبكي بحرقة، أرفع بصري لأعلى باتجاه مصلى النساء، أعرف ذلك الصوت جيدا، أنه صوت أمي، أنتِ الوحيدة يا أمي التي تملك الحزن منها.


أذن المؤذن لصلاة العصر، ولم يعط مهلة ما بين الأذان والإقامة. لماذا أنتم مستعجلون على دفني؟ سأقف لكي أصلى معهم، وقفت خلف الصفوف.

- الله أكبر

- بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم..

ما هذا؟ ماذا بعد الرحمن الرحيم؟ أعيد السورة من البداية، ما هذا الذي يحدث؟ أنا لم أعد أتذكر سورة الفاتحة، لقد كنت أقرأها يوميا عند صلاتي، ماذا؟ لا أتذكر أخر مره صليت فيها، هل يمكن أن أكون قد نسيت القرآن؟ مستحيل، سأتذكر الان. لا، لا انتظروا من فضلكم، لا تنهوا الصلاة الان، لم أكملها معكم، قد تكون صلاتي الأخيرة.

- صلاة الجنازة يرحمكم الله.


صلاة الجنازة! جنازتي، اذاً فالأمر واقع، أنا ميت. لا. مستحيل. أنا نائم الان، أحلم، استيقظ من فضلك.

- الله أكبر

أقف امام المصلين.. انتظروا من فضلكم، أنا حي، سأذهب الان لأيقاظ نفسي، انتظروا دقائق فقط.

- الله أكبر

أصرخ فيهم، لا أحد يعيرني اهتماماً، أخرج من المسجد مسرعا إلى منزلي، دقات قلبي تتسارع، أصل إلى غرفتي، سأفتح الإضاءة، فذلك كفيل بإيقاظي. هيا قم، استيقظ، افتح عينيك. لماذا لم استيقظ.

- أمي، أمي.

ستسمعني وأنا أصرخ الان عليها، ستقوم مرتعبة، ثم تقوم بإيقاظي. لماذا لم تستيقظ أمي؟ لا يوجد أحد لمساعدتي.


أسرع إلى المسجد ثانية، لقد أنهوا صلاة الجنازة، يحملني المصلون، ويضعونني في سيارة دفن الموتى. أشعر بحرارة في جسدي، ودقات قلبي تنتفض من مكانها، ابتلع ريقي، لكن فمي صحراء جافة، أريد ماء. تتحرك بي السيارة مسرعة، تصل إلى المقابر، ذلك المكان الموحش الذي ما أحببت يوما أن أمشى بجانبه، حتى عندما مات أبي لم أقم بزيارته مرة أخرى بعد دفنه. يحملني المشيعون ويدخلون بي إلى مدافن العائلة، حارس المقابر يفتح المقبرة التي دفن فيها أبي، أحبك يا أبي، ولكني لا أريد أن أكون بجانبك الان، ما زال لي عوز في تلك الدنيا. عيناي مغلقتان أشعر بهما. أرى كل شيء. أجاهد لفتح عيني، ولكن لا استجابة، أعلم جيدا اننى حي.


لا، لا انتظروا لا تدخلوني القبر، أشعر بدموعي تقف على بوابة عيني، هناك قبضة في قلبي، تلك القبضة التي تأتيني كلما أقلقني شيء، أدخلني الحارس القبر ودقات قلبي تسارعت أكثر. لا تخرج انتظر من فضلك، لا تخرج، لا، لا، لا تغلقه انتظر، لا تتركني هنا. ظلام، ظلام، ولكني أستطيع أن أرى من خلاله، يا رب لا تظهر لي شيئا، يا رب لا تجعل القبر يضيق بي، ولكني أسمع صوتا، يا الله، يا الله لا تجعل شيئا يقترب مني، الصوت يزداد في أذني، يزداد أكثر، أفتح عيني، عرق غزير على جبهتي، حلقي جاف، قميصي كأنه سبح في بحر من العرق، لا أعي شيئا للحظات، الصوت ثانية، أنه صوت منبه جوالي، ما هذا؟ أنني حي، أنني حي.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رائد يونس النبراوي

تدوينات ذات صلة