الحمد لله، لم أندم على قراري يا صغيرتي.. لا عزلة بعد اليوم ما دامت هذه الأرواح على الأرض.

دعونا نُسلط الضوء على يوم من أيام صراعي مع الكلمات.. بسيط لكن مميز..


اعتدت كل صباح أن أنسج بعض الجمل الأدبية التي تومض في رأسي وأتطرق إلى فهمها أكثر بالكتابة، مرة أنجح في التعبير عن عذاب ما، ومرات أفشل ويضيع وقتي هباءً.. هكذا تكون المعاناة مع الإبداع!

تتغير الأفكار، والمكان ثابت..

غرفة الكتابة، التي هي في الأصل غرفة النوم والقراءة والصمت والاختباء من ضيوف غير مُرحب بهم، وعلى رأسهم فقراء النفوس الذين لا تنطق ألسنتهم إلا بتفاهات الأمور..

في الواقع، أنا لا تشغلني السطحية وبهرجة المظاهر، أدواتي متواضعة للغاية تتمثل في جدران تفصلني عن ضوضاء المجرة، باب مغلق بالمفتاح لاحترام تمردي وهذياني في بعض الأحيان، جهاز "لاب توب" يعمل بكفاءة لساعات ممتدة وفي الخلفية موسيقى هادئة والسلام، إنه السيناريو المعتاد الذي أشعر بالارتياح معه منذ أن عشقت القلم، وذلك الصباح انقلب الروتين بالكامل وبدون أي ترتيب مسبق..

لقد اشتعلت داخلي رغبة قوية في الخروج عن حدود منزلي للمرة الأولى بعد أسابيع طويلة، ربما شهر أو أكثر! نعم كما قرأتم، فأنا كائن "بيتوتي" إلى حد كبير ولا أخجل من طبعي الكئيب في نظركم، ولا بأس من كسر القاعدة من فترة لأخرى لمواكبة التغيرات التي تطرأ على البشرية من حولي..

كان لا بد أن أنتقي الوجهة الأمثل لي بعناية حتى لا أندم على قرار الانسلاخ من غرفتي ولو لنصف يوم فقط، فلم أتردد أن تكون الطبيعة ملجأي الوحيد في ذلك المأزق وتلك الساعة العصيبة!

إنها واحدة من أسعد لحظاتي حين أبتعد عن القيل والقال وإزعاج المدينة وأهرب إلى لوحات الكون التي تمدني بأصدق المعاني، فلا مناوشات أو ثرثرة فارغة تقطعني عن حواري مع العقل وبعد أن أتمكن بصعوبة في تحقيق أحد أهم أهدافي في الحياة.. ألا وهو تحرير سطر مفيد فحسب..

وبالفعل، تأنقت لموعد غرامي مرتقب مع حروفي، وعبرت الطريق من مملكتي الآمنة إلى أجمل بقاع الأرض..

أنغام العصافير، نسمات صافية، نور الشمس وكل الهدوء الذي أرجوه لضلوعي الثائرة.. فماذا ينقصني الآن؟!

وبعد تنشيط عضلاتي بالمشي والاستمتاع بالهواء البارد، بحثت عن مكان مناسب لاحتواء صخب روحي وإرادتي الناعسة، محاولات تعقبها محاولات، ومن ثم قادتني خطواتي إلى استراحة خضراء اللون لأكون أنا والطبيعة في تلاحم ساحر، كأننا جسد واحد، فلا أشعر بالاغتراب..

بدأت في ترتيب أوراقي وتهيئة وجداني لأغرق في بحور التفاصيل كعادتي، وإذ بها أول حيرة لي: من أين أبدأ وحواسي تحترق؟!

١٠ دقائق، نصف ساعة، ساعة كاملة مرت وأنا في انتظار إجابة منطقية! ولحسن الحظ أنني لمست طرف الخيط أخيرًا قبل أن يجن جنوني وأذم موهبتي وأذهب بلا رجعة!

التهمت القلم لطبخ وجبة دسمة من الوعي، وفي الحال شعرت بطاقة لطيفة تحوم خلفي..

هي، روح بريئة تلهو بين العشب، كان يخنقها الضجر مثلما فعل بي، وعلى ما أعتقد أنه الدافع الأول وراء انجذابي لها..

بمجرد أن رأتني متقوقعة على نفسي وفلسفتي، اعتزلت الجميع ودارت حولي برشاقة وإغراء.. إنها تعرف جيدًا كيف تأسرني..

"أهلًا يا حلوة"

قُلت لها بابتسامة ترحيب خفيفة، وبعدها حاولت تجاهل حركاتها الطفولية خشية أن يضيع الوقت في عبث أعشقه مع كائنات لهم في قلبي مقام الأمراء، وأثناء ما كنت أتحول بين هضم الفكرة وتوثيق الألم، حدث ما لم أكن أتوقعه!

هي لا تعرفني ولا تثق بي لدرجة أن تقفز على أوراقي وتتخذ أغراضي ملاذًا لها!

تساءلت حينها في ذهول: لمَ أنا؟! ما السر الذي دفعها إلى لفت نظر زائر لا طائل مادي من مجالسته؟!

لم يكن معي أي ملذات تشدها نحوي أنا بالذات، وهي لم تطلب مني أي مقابل! إنه الأمر الذي أثار دهشتي وقتها!

قطرات من الحليب، بقايا عظام دجاجة مشوية أو حتى علبة تونة منتهية الصلاحية، لا شيء! لم تطلب سوى الدلع والعطف، ربما تحتاج إلى الونس وإلى رفيق مختلف بلا ذيل ومخالب حادة، ربما تفتقر إلى لمسة حانية أو إحساس بالرحمة، وليتها تعلم أنني أحتاج منها أضعاف ما تحتاجه هي مني!

أدركت حينها فكرة اليوم دون مشقة فلترة الحقائق والمفردات.. إن الأرواح تجتمع لحكمة يعلمها الخالق، والحياة مجرد وسيلة لا أكثر ولا أقل..

كيف كان رد الفعل؟

ضربتها؟

أطلقت صرخات هيستيرية أربكت الزهور والفراشات؟

انسحبت من المكان؟

الحقيقة أنني لم أغضب منها، رغم انشغالي فيما يُحاصر عقلي من كل اتجاه، وإن كنت في أمس الحاجة إلى تركيز تام لإنهاء ما بدأته وسط أهوال الفكر، ولو، فأنا لن أتسلح بالقسوة في معركة الوجود ضد مخلوقات بهذا النقاء الذي لم أجده في كثير من البشر!

تأمل المشهد من جديد..

هي لم تتودد من أجل مصلحة دنيوية أو انتزاع سلطة زائلة، العلاقة خالية تمامًا من النفاق، فإن لون البشرة والمعتقد الديني والنوايا آخر ما يحكم الارتباط الفطري بيننا وبينهم..

لنكن أكثر عدلًا ونضع الأمور في نصابها الصحيح..

إنها أرواح طيبة تُشاركنا الكوكب بأقل القليل، لا تصطدم معنا في نقاش وتفرض رأيها بغطرسة أو تُزاحمنا بسياراتها الباهظة، إنها لم تكترث بشجرة عائلتي وجذورها الرفيعة قبل أن تحجز لها مقعدًا بجانبي، فهي لا تعرف عُقدة الحسب والنسب وملايين البنوك.. ونحن نعرف!

يا رجل، بعمرك أُعجبت بزرافة حسناء تتمايل بفستان سوارية أو صادفت سفينة الصحراء الحاصل على دكتوراة في القانون؟!

أبدًا..

هي لا تهتم بكل المثالية التي تبتلعنا، إنها تشعر فقط، وكم هو رائع أن تؤكد لنا الحياة بطريقة ما أن "الحيوان" فيه من الخير ما لا تملكه أنت أيها الإنسان!

فكرت أن أتنازل عن عمق الموقف وأعود لعملي قبل أن تتسرب اللهفة ويفتر الشغف، ولكنها أبت انصرافي عنها وسحرتني بصوتها الناعم: "نو نو"

المضحك أنها تُحاورني ولا أفقه مرادها، وتستمر حتى وأنا جاهلة لمضمون خطابها، لغتها غير مفهومة لي بحكم آدميتي، ومع الأسف أنا لم أُخلق بموهبة خارقة تُترجم صهيل الخيل وزئير الأسد.. فماذا تقصد بـ "نو نو"؟

جائعة؟ سعيدة؟ غاضبة؟ تنشد السلام؟ تائهة في عالم لا يليق بها؟

أحسست بأنها تقول لي: كفاكِ تفلسف يا امرأة، إن الأفكار لن تجف، فأنتم أصحاب الفصاحة إلى الأبد، ومن نحن بالمقارنة بكم يا أبطال التاريخ والحضارة! لنصنع الآن بعض الأوقات الممتعة معًا قبل أن ترحلي وتتركيني وحدي مرة أخرى..

أي فصاحة تلك التي تقصدها! إنها أمام بلاغتها لا تُذكر..

عزيزتي.. شكرًا للمحبة غير المشروطة..

للأثر الطيب دون النطق بكلمة واحدة من قاموسنا الإنساني، فقد استطعت الكتابة بفضل قلب بريء، بعدما ظننت أن عقلي أصابه الشلل المؤقت من فرط أوجاعي!

الحمد لله، لم أندم على قراري يا صغيرتي.. لا عزلة بعد اليوم ما دامت هذه الأرواح على الأرض.


Nora Hanafy

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات Nora Hanafy

تدوينات ذات صلة