إنها المرة الأولى التي أشعر فيها بنوع جديد من "الفوبيا" التي لا علاقة لها بالمرتفعات أو الأماكن الضيقة، إنها "فوبيا بسكوت الشيكولاتة"!!
لم أتخيل أنها كلماتي الآن أو أنني سأطرح تساؤلات من هذا القبيل يومًا ما، لكنها الدنيا، كل الاحتمالات فيها مُمكنة، وقد يخلع المستحيل ثوبه ويتعرى أمام الواقع من حين لآخر.. اللا شيء هُنا قد يصبح شيئًا!
أنا حائرة جدًا، فإننا كثيرًا ما سمعنا عن حوادث مأساوية كان البطل فيها ثأر لا ينقطع، ورث بملايين، خلافات عاطفية، أمراض نفسية، وما إلى ذلك من أخبار مقبولة في زمن الفتن هذا، ولكن، ما المبرر المنطقي وراء تحطيم رأس طفل معجونة بالبراءة؟!
هل كسر لُعبته؟
التهم "سندوتشات" زميله في الفصل؟
هرب من حصة العلوم؟
نام في ساعة متأخرة؟
ما المبرر بحق يا سادة؟!
المؤسف أن الإجابة بين السطور الأولى.. نعم، إنه "بسكوت بالشيكولاتة" كما قرأتم قبل لحظات!
إن قُلت كلمة "عيد" أو "إجازة" أو "فُسحة"، سنجد كل هذه المفردات ترتبط بشراء "الحلويات" على كل شكل ولون ولم نهتم حينها بكابوس تسوس الأسنان، وأما الآن، فقد أصبحت الترجمة الحرفية لكلمة "الهلاك" في عالمنا المجنون.. والسر: مذاق الشيكولاتة اللذيذ.. الدموي!
إنه المشهد الذي عشت أدق تفاصيله دون أن أفهم تمامًا.. هل هو حقيقة ملموسة أم أن الفلسفة لحست عقلي؟!
قبل أيام، وتحديدًا ليلة الرابع من رمضان، كنت في سهرة عائلية بمنزل أحد أقاربنا، نضحك على كومة أجسادنا بعد سفرة الفطار وسط صخب إعلانات التلفاز وتزاحم الحكايات من كل لسان، وفجأة.. اهتز المكان وأهله بصرخات مفزعة أشبه بجنازة شعبية ضخمة، ارتبكت لدرجة أن طبق الكنافة كاد أن يتسرب من بين يدي ومن ثم الحرمان من متعة أعشقها في شهر الخير.. ثمة مصيبة على الأبواب!
من تحليلي لصوت الصرخة، أحسست بأن ثمة سفاح فقد السيطرة على نفسه وافترس أحدهم بضراوة، الكبد في مكان والطحال في مكان كما في أفلام "الزومبي"، لم يكن الصوت يوحي بمشاجرة فحسب، وإنما تأزم الوضع أكثر حتى سمعنا نغمة حادة وحاسمة أكدت لي إحساسي..
الإسعاف.. نحن أمام الجريمة الكاملة الآن!
كان لا بد أن أكتشف الأمر بنفسي، لأقطع الشك باليقين من ناحية، وأرتاح من طعنات أفكاري التشاؤمية من ناحية أخرى.. حسنًا، أخطف نظرة سريعة على الشارع قبل أن يلمحني القاتل فأصبح فريسته الثانية، هو الحل الوحيد وما باليد حيلة..
وقبل أن أخطو إلى مصير أجهله، سبقني أبي وقالها بصوت يرتجف: "ولد صغير غرقان في دمه!"
تجمدت حواسي مثلكم في هذه الأثناء، لأغرق أنا بدوري في تساؤلات لم ترحمني..
لمَ؟!
كيف؟!
أين؟!
متى؟!
ماذا عن شعوره وهو لا يعرف معنى الموت؟!
وهل أدرك أنه ينتهي قبل أن يبدأ؟!
مليون سؤال وسؤال دار في ذهني وقتها، وبعد محاولات لفك اللغز، وبما التقطناه بصعوبة من همسات الجيران، زال الغموض أخيرًا، فتألم الجميع كما لو أن الضربة وقعت على رؤوسنا نحن!
طفل يلهو مع "شلة" المدرسة في ليلة رمضانية بسيطة للغاية، وبينما كان يعبث مع بائع "سوبر ماركت" يعرفه، تفاقم الهزار حتى افتعل الطفل سرقة "البسكوت" على غفلة وأخذ يجري بعيدًا حد التبخر، كان يحسبها دُعابة منه لإنعاش الأجواء، وربما كان يعتقد بأن الكل أصدقاء قلبه وأن البائع في مكانة خاصة لا مجال فيها للخيانة، وحين يشتد الخصام بينهما سرعان ما يعود إليه بالنكات وكأن شيئًا لم يكن، لكن الغضب هو من قال كلمته..
اشتعلت النيران في أعماق البائع، ترك الزبائن والحسابات والبضاعة كلها، وأصبح شغله الشاغل أن يقبض على الطفل ويُلقنه درس عُمره، وهو بالفعل درسًا لن ينساه، وأنا كذلك!
الخبر المُحزن أنه أمسك به بعد مطاردة طويلة من بيت لبيت ومن حارة لحارة، ولكن هُنا أكثر من سيناريو.. مثلًا..
يضرب يده التي تهورت وبادرت بالهزار السخيف صارخًا في وجهه: "عيب يا ولد"..
يضربه لفظيًا بشتائم اعتدنا عليها نحن أيضًا في طفولتنا المنسية..
يكتفي بلفت نظر الأب بأن ينتبه إلى تصرفات ابنه فلا ينقلب مستقبله إلى البلطجة وعصابات قُطاع الطرق..
وعلى أقل تقدير يتركه وشأنه فتمر الليلة على خير، لعب عيال والسلام..
المعذرة، كلها سيناريوهات خيالية، لقد كسر رأسه وسعادته في سور حديد!
فماذا لو أحرق بضاعته بصاروخ رمضاني طائش بغير قصد؟!
أتخيل أنه فقد الثقة في البشر مع أول نقطة دم سالت من جرحه المفتوح، غلبه الخوف من اللعب مع الكبار أو حتى مجرد الاقتراب منهم، أعتقد أنه كان يعتبرهم جزءًا من عالمه الآمن قبل أن يسقط في وحل الحقيقة، لطالما كانت تربطهم علاقة أُلفة وعطف قوية، والآن صار حضورهم أكثر رعبًا من أشباح الظلام وأيام الامتحانات البغيضة..
الاستثناء تغير، والسبب صوت "قرمشة" وقلب لم يُدرك شر النفوس بعد..
وعني أنا، فهي المرة الأولى التي أشعر فيها بنوع جديد من "الفوبيا" التي لا علاقة لها بالمرتفعات أو الأماكن الضيقة، إنها "فوبيا بسكوت الشيكولاتة"!!
أنا أخاف من طبقات هشة تذوب في كوب شاي بالنعناع؟!
أخاف من لذة مشروعة تُنقذ معدتي في أوقات الجوع؟!
"بسكوت" يا نورا؟!
لقد اختلفت نظرتي للدنيا بعد أن توجعت عليه، لم يخطر على بالي أن أشعر بالأمومة قبل الأوان، وذلك المشاغب فعلها!
أعترف بأن الضربة أعادتني إلى صوابي مرة أخرى، ربما رأيت عن قرب أكثر، تنازلت عن دهشتي وفهمت أننا بحاجة للمزيد من المرونة على هذه الأرض، وحين نسمع الصرخة لا يهتز طبق الكنافة في أيدينا أبدًا، الثبات على مبدأ "عادي.. دنيا!" هو الحل أمام صدمات بحجمها، فإن الواقع هو الواقع مهما كتبنا عن المدينة الفاضلة وحلمنا بها وطنًا لنا، تلك المدينة بعيدة جدًا، لقد أجهض رحم الحياة سكانها من قبل الولادة، ولكننا نأمل أن تمر الأيام بهدوء فحسب، ألا تصفعنا المشاهد أو يتأذى الطفل بداخلنا، وأن يظل "البسكوت" رمزًا للبهجة لا الفراق..
انفضت لمة الأسرة بعد سحور شبعنا فيه الكلام عن الولد ومغامراته الشوارعية، وحتى خيوط الفجر وأنا أفكر.. هل سيلتئم الجرح في رأسه قبل أن يكره صنف السكريات؟! سنرى..
الحمد لله.. جت سليمة.. علمت هذا الصباح أن الطفل بخير، إصابته سطحية وأرجو أن تكون كذلك بالنسبة إلى روحه، وهي مسألة أيام ويعود لشقاوته من جديد، وإن كنت أخشى عليه من لعنة "الآيس كريم" هذه المرة!!
التعليقات