إنها مهزلة كبرى أن نتذكر ماركة الساعة وسعر القميص وآخر أكلة مهضومة.. وننسى أنفسنا! أليس كذلك؟



إنه يوم جديد في قصتي مع الحياة ومغامراتي مع الألم..


يوم عادي جدًا، شروق وغروب وشمس وقمر، لا جديد، أو ربما أنا من لا يتذكر أبسط التفاصيل فيه، كل ما أتذكره بوضوح هي عملية الكتابة، كتبت في ساعة من ساعات النهار، وبينما كنت أشهد على ولادة الكلمات، ضاع المعنى، ومات جنين الفكر في رحم الوعي!

كان الضياع من نصيب كلمة ما، ولا أستطيع تحديد سبب ضياعها حتى الآن..

قلة نوم؟

قلة تركيز؟

لا أظن، الفكرة نضجت وكل عوامل النجاح توفرت، فما المبرر وراء غيابها إن كانت البيئة الأدبية مناسبة للإبداع؟!

استمرت محاولات البحث حتى عن أقرب المرادفات لها، ليس بالضرورة الكلمة ذاتها، أعرف أنه في أزمات مثلها مسموح ببعض المرونة، أي شيء يُخرجني من المأزق والسلام، ولكن عقلي بقسوة الصخر، رفض الفرصة وضعت أنا!

ساد الصمت وقتلتني الحيرة.. فهل تستحق كلمة واحدة إشعال كل هذه الفوضى؟!

كلمة بسيطة للغاية، تُعبر في مضمونها عن الخير والشر والمعرفة والجهل والحب والكره وكل الحقائق والتناقضات، ورغم بساطتها فهي نبع الحياة، وأصل العدم!

يبدو أنها فوازير رمضان ولكن على طريقتي الخاصة!

حاولت مرارًا وما باليد حيلة، عُدت بالزمن لعهد الطفولة وأيام "الحضانة" وحصص القراءة والنحو..

ألف.. باء.. تاء.. ثاء...

زرع.. حصد...

فعل وفاعل ومفعول به...

لكم أن تتخيلوا كم كلفني ذلك الموقف المهيب أمام ذاكرتي المُشتتة!

إنها تحتضر!!

بعد أن كانت في أقصى درجات الانتعاش، صارت تتأرجح بين مغالبة النسيان والخضوع إليه، ثمة خلل في التواصل بيني وبينها، وللمرة الأولى أشعر بمعنى "إيرور 404" في رأسي، لقد كانت تمدني بالمفردات والمشاهد بكرم العطاء، وأصبحت فجأة في سن الشيخوخة، ضعيفة، تأبى حتى مساعدتي من أجل النجاة!

لا بأس، ربما أحتاج إلى قسط من الراحة أو أن ذاكرتي تتلهف ذلك الهدوء اللذيذ بعيدًا عن صخب الأحداث وشد الأعصاب، حسنًا، إنها المحاولة الأخيرة، وإلا فهي الحرب!

وبالفعل، اعتزلت أوراق الكتابة وكل الأحلام لعلها بداية حل اللغز، ولا جدوى، لم تمر أمام شريط الإدراك ولو مرورًا خاطفًا، وكأنها في الأبجدية مجرد أوهام!

ولكن كيف؟!

إنها كلمة ذات شأن عظيم في الأدب، ومقالي المسكين هذا، أخشى عليه من الانهيار بعدما رأيت فيه القيمة..

يا ذاكرتي العشرينية، لمَ أصبح التفاعل معك شاقًا لهذه الدرجة؟!

كل شيء توقف!

اضطررت إلى الضغط على "فرامل" أفكاري خشية الهلاك في سبيلها، وأما عن عقلي، فهو يتألم من فرط المحاولات، أحسست بصداع فكري هائل يتصاعد كلما حاولت استدعاء الكلمة من عالمها الغامض، ومن المؤسف أنها ترفضني تمامًا وكأني من أعداء اللغة مثلًا.. إنها القطيعة!

لا يهم.. لن أتهاون في البحث عنها في كل حروف العربية..

السين مع الراء، الباء بجانب الفاء.. عبث!!

كلها تركيبات لغوية لا معنى لها على الإطلاق، لقد كانت المخرجات أشد هذيانًا من حالي وقتها!

ثم ماذا بعد؟

لجأت لمن حولي بعدما فقدت القدرة على اللحاق بها وحدي..

ارتميت في أحضان قوة ملاحظة غيري، وأخذت أصف معناها لأي عابر سبيل ربما تنقذني ذاكرته، لن أنكر أني رأيت شعاع أمل حين سمعت كلمات تقترب منها إلى حد التطابق، ولكنها ليست الكلمة المطلوبة، وفي تلك الأثناء تبين لي أنها ضاعت منهم كذلك..

لقد جُننت.. ماذا أصاب ذاكرة البشرية يا سادة؟!

في كل الأحوال، دعكم منها.. نحن الآن أمام استفهام صريح وحاسم..

ماذا لو فقد المرء نفسه؟!

إنها لحظة التي فصلت بين الإدراك والضياع، تبدل فيها الوعي إلى فقدان ذاكرة مؤقت، كل التفاصيل فقدت معناها، اللمسة باردة، النظرة عمياء، النطق أخرس، كل الحواس على حافة النهاية، وأنا.. لست أنا!

لقد ألهمني الهذيان بحق، رغم قسوته وغياب "كتالوج" التعامل معه، فقد جعلني أتساءل بعد أن تمكنت بصعوبة بالغة من اقتناص الكلمة وإتمام المقال على خير.. ماذا لو خسرت ذاكرة وجودي؟!

لو أصابني الزهايمر في جرح نازف، كل الذكريات تتطاير، كل الأرواح يدفنها الزمن في قبور النسيان، ولكن في رأيي المتواضع أن كل النسيان في كفة، ونسيان المرء منا لحقيقته في كفة أخرى!

من يكون؟

ماذا يفعل في الأرض؟

ما اسمه، عمره، هدفه، وفكرته الأبدية؟

لقد ضاعت كلمة واحدة عن بالي، كلمة واحدة فقط، وفعلت بي الأفاعيل، فكيف عن ضياع الروح من الروح؟!

ماذا لو وقفت الآن أمام نفسك فلم تجد أي شيء؟!

صورة ضبابية، لا تعرف ملامحك، أسرارك، مشاعرك وأفكارك.. لا تعرفك بكل بساطة..

أتساءل كذلك.. كيف يكون إحساس من فقد إحساسه بذاته؟!

من يُقاوم من أجل أن يفهم تكوينه..

من أين أتي وأين انتهت به الخطوات، يُفتش عن عنوانه في خريطة الأكوان، عن أرضه وزمنه ونبضه، وأي الجذور في قلبه اقتلعها الواقع أولًا..

يتساءل عن ماهية الحياة من وجهة نظره، وهل له وجهة نظر أصلًا أم هو تكرار ممل للقطيع؟

أجبني بصراحة، أي كلمات يُمكنها إسعافك في وقت مصيري كهذا؟!

إنها مهزلة كبرى أن نتذكر ماركة الساعة وسعر القميص وآخر أكلة مهضومة.. وننسى أنفسنا!

أليس كذلك؟

بالمناسبة..

"إنسان"..

هي الكلمة الضائعة التي خضت من أجلها معارك نفسية وفكرية ضارية، ليتني عرفت أن الحل بين يدي، أن أتأملني فحسب، لقد كانت الإجابة هُنا بينما كنت أبحث عنها هُناك!

Nora Hanafy

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات Nora Hanafy

تدوينات ذات صلة