"عندما أكتب خواطري في المساء، أشعر وأن كلماتي قد يكون لها تأثير ولو بنسبة واحد في الألف، ولكن عندما أنزل الشارع أشعر وأني أكتب لنفسي"



نولد من رحم أمهاتنا وعمرنا وأعمالنا زيرو. أما المشاعر والوجدان فيبدأ تشكيلهما ونحن أجنة في رحم الأم. فهناك العديد من الدراسات علي الأجنة في الإنسان التي تشير إلي فرح وغضب وقلق الجنين في الشهر السابع والثامن بسبب المؤثرات الخارجية. ومع أن الجنين محاط بأغشية تعزله عن الوسط الخارجي، إلا أنها ليست عازلة للصوت. ولذلك فأنا لدي اعتقاد شخصي أن عمر الانسان الحقيقي لا بد أن يضاف اليه عدد الشهور التي قضاها في رحم أمه، لأنها فترة حساسة جدا في حياته.


وبالرغم من أن سلوكنا ووجداننا يتحكم في جزيء كبير منه نوعية جيناتنا من الاب والام والأجداد، إلا أن البصمة النهائية للسلوك والوجدان تتشكل بالعوامل فوق الجينية "الظروف البيئية". فهناك بروتينات في نواة الخلية معروفة باسم "هيستون" تلتف حولها أحبال الجينات الطويلة (الكروموسومات)، ليس فقط كدعامة ولكن ايضا في التحكم في تثبيط او تنشيط الجين. وهذه البروتينات من السهولة التأثير عليها لأنها أضعف من الجينات في تحمل الظروف الخارجية.

ولذلك، فمن المهم جدا مراقبة وتشكيل الظروف البيئية التي يعيش فيها المجتمع حتي نضمن تشكيل وجداني وبالتالي ثقافي يرتقي ويليق بالإنسانية.


ومن أهم عوامل البيئة، التعليم والإعلام والفن والأدب والشارع. فإن حدث تلف في أيهما وتراكم حتما سوف يؤدي إلي تلف في السمات الشخصية الأصيلة للمجتمع، وما يترتب عليه من عشوائيات وفوضي أخلاقية.

وبالقياس، فإن أصبح معظم الناس لا يهتم بالفكر والأصالة والإبداع والثقافة، تصبح الكلمة الخفيفة والسطحية والعشوائية الخالية من المعاني الإنسانية هي الطاغية خاصة بين الشباب. ولا يتوقف الأمر علي الكلمة بل يصل إلي لغة الجسد، ونوعية المواضيع المفتوحة للنقاش، وكيفية تناول النقاش.


مؤكد ما أتحدث عنه من غياب الثقافة الإنسانية المغلفة بالأصول والرقي والحكمة والفكاهة العذبة الراقية، عندما تطلب الأمر، هو نتيجة تراكمات طويلة عبر السنين ولا يتحمل اسبابها ولا نتائجها جيل اليوم، بل هو لم يسمع عما أتحدث عنه إلا في الأعمال الفنية القديمة التي يشاهدها إن حدث، ولن أقول الأعمال الأدبية لأن القراءة، وخاصة القراءة العميقة، أصبحت تاريخ.


تشكيل الوجدان الانساني لشعب ما يحتاج سنيناً طويلة، يلعب فيها التعليم والاعلام والمساجد والكنائس والأدب والفن أدوار كبيرة ومؤثرة للغاية. والشعوب تحمل في ادمغتها مستقبلات لكل انواع المؤثرات. فاذا طغت المؤثرات العشوائية والفوضوية تحول الشعب رويدا رويدا إلي شعب فوضوي، والعكس بالطبع صحيح.


ومع أن العامل الاقتصادي مهم في تشكيل وجدان الشعوب وثقافتها، إلا أنه عامل ثانوي. فهناك من الشعوب، ومنها مصر في فترات كثيرة، مثل اليابان والمانيا وماليزيا وسنغافورة لم يتسبب فقرها بعد الحرب العالمية الثانية إلي نحر هويتها الثقافية وحدوث طفرة في سلوكها وثقافتها وطغيان العشوايئة والفوضوية. بل تمسكت هذه الشعوب بالسمات الشخصية لشعبها رغم الفقر والهزيمة، بل زاد لديها الابداع والرقي.


الحضارة الانسانية مقرونة بصورة كبيرة بالثقافة والوجداني الإنساني، ولذلك لا بد من وجود مبادرات قومية معلنة أو غير معلنة لتوجيه دفة سفينة الوجدان والثقافة بآليتها المختلفة لضمان سير السفينة في طريقها الصحيح. وقد يتطلب ذلك احيانا تطبيق نوعاً من الشدة بل القسوة علي من يعاند ويجاهر ضد التيار.


علينا بالتعليم والآداب والفنون، بروتينات تشكيل ثقافة ووجدان الشعوب.


خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة