"عندما يتقدم بنا العمر نري احداث الحياة التي ولت بعيون دقيقة وبصيرة اوسع وبقلوب مطمئنة وعقول أهدا"

العمر في انبوبة اختبار 49238591806864360



من اجمل الأجهزة العلمية التي كنت وما زلت انبهر بها في طريقة عملها وما تفعله في العينات التي توضع فيها هو جهاز الطرد المركزي الذي يطلق عليه "السنتروفيوج Centrifuge.

وتقوم فكرة هذا الجهاز علي فصل الجزيئات التي توضع به علي حسب حجمها ووزنها. فالجزئيات الأكبر حجما والأثقل وزنا تترسب أولا ثم التي تليها، وهكذا طبقات فوق بعضها طبقات. وتتعدد أشكال وأحجام هذا النوع من اجهزة الطرد المركزي، فكلما زادت سرعة دوران الجهاز كلما زادت قدرتها علي فصل أخف وأصغر الأشياء.


العمر في انبوبة اختبار 27883338771595988



ودائما ما يبهرني هذا الجهاز ببساطة الفكرة التي يعمل بها وعبقرية أدائه، وخاصة قدرته علي فصل الأشياء الصغيرة عن بعضها البعض وفي وقت قصير. وكانت أكثر المواد ابهارا لي ولتي يفصلها هي عينات الدم. فمجرد أن تضع في الجهاز أنبوبة اختبار بها عينة دم طازجة حتي يفصلها في خمس دقائق إلي ثلاث طبقات بعضها فوق بعض طبقات.

العمر في انبوبة اختبار 8540943675257018


الطبقة السفلي هي كرات الدم الحمراء وتبدو في قاع الأنبوبة ككتلة حمراء داكنة اللون. وفوق هذه الكتلة ترقد عليها مباشرة طبقة رقيقة من كرات الدم البيضاء لا تكاد تراها العين. ثم فوق ذلك طبقة سائلة وشفافة ولكنها أسمك حجما وهي طبقة البلازما في حالة فصل دم غير مجلط أو السيرم في حالة فصل دم مُجلط.

والثلاث طبقات تلك هي مكونات الدم، وهي كرات الدم الحمراء والبيضاء وسائل البلازما الذي تسبح فيه هذه الكرات. وعندما أنظر إلي هذه الطبقات وهي فوق بعضها البعض في انبوبة الاختبار من أسفل إلي أعلي، أتذكر العمر وأحداث الحياة الثقيلة منها والحمراء، والأخف والبيضاء، والروح السائلة والشفافة الرقيقة التي تسبح فيها أحداث الحياة.

وجهاز الطرد المركزي لأحداث حياتنا هو العمر خاصة في مرحلة الكهولة والشيخوخة. وتتعدد سرعات وقدرات العمر علي فصل أحداث الحياة بمقدار طول العمر. فكلما تقدم العمر بنا كلما زادت قدرته وسرعته في فصل أحداث الحياة عن بعضها البعض مهما كان حجمها وثقلها.

فعندما أضع أحداث الحياة الآن في أنبوبة اختبار العمر وأدير الجهاز، أجد الثلاث طبقات واضحة وجلية أمام عيناي. الطبقة الحمراء، وهي الأحداث الثقال والتي كنا نحمل همها بين جوانحنا، وتصيبنا بالقلق والهم والحزن أو حتي الخوف. ولكنها أصبحت الآن في أسفل أنبوبة الحياة، وليس لها فائدة حتي ولو فصلناها، فقد انتهت وولت وترسبت في قاع أنبوب الحياة.

وفوق تلك الطبقة أري طبقة خفيفة ورقيقة بيضاء من مواقف الفرح والبهجة والسعادة والتواصل الجميل مع الناس. ولكنها قد انتهت هي الاخري ولا نستطيع الاستفادة منها في حاضرنا وان كانت تحمل في داخلها بصماتنا في الحياة وشريط الذكريات والحسنات والسيئات. فتلك الطبقة الصغيرة والرقيقة تشبه خلايا الدم البيضاء بأنويتها الملآنة بجينات الحياة والسيتوبلارم المليء بجزيئات الحياة. فمع أن خلايا هذه الطبقة من العمر قت انتهت إلا أنها تمثل لنا كتابا وبصمة قد يستطيع الآخرون قرائتها وحل شفرتها للاستفادة منها أو منا ولو بعد حين.

أما الطبقة العليا والأكبر والأسمك في أنبوبة اختبار العمر والسائلة فهي الروح الشفافة للنفس، والتي تحتوي في داخلها علي كل افرازات احداث الحياة نافعة أو ضارة، ولكننا لا نستطيع أن نراها إلا إذا فصلناها ثم حللناها بأجهزة أخري دقيقة. فطبقة الروح هذه تبدو شفافة نعم، ولكنها مليئة بخلاصة مختلف بصمات النفس التي أفرزتها عن عمد طوال مشوار العمر والتي أخذتها معها لأعلي لوقت العرض والتحليل والحساب يوم الدين.

تلك هي أنبوبة العمر عندما توضع في جهاز الطرد المركزي للحياة من وجهة نظر بيولوجية كأسلوب حياة.

مع خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة