"التفكير والتدبر والتحليل مطلوب لفهم الغيبيات وليس لمحاولة التشكيك فيها وانكارها"
تحت أي مؤثرات بيئية أو نفسية قد يعتل الجسد بدرجات متفاوتة قد تصل إلي مرض عضال، مثل أمراض المناعة الذاتية، التي تهاجم فيها الخلايا المناعية خلايا الجسد نفسها فتتسبب في تآكلها، أو مرض السرطان الذي يتسبب في اعتلال الجسد كله؛ أو أمراض نفسية قد تصل إلي الاكتئاب. وإذا كانت سلامة الجسد تحتاج إلي سلامة بيئة من غذاء وماء وهواء وسلوك يومي صحي مثل عدد ساعات نوم كافية ومنتظمة وقدر واف من الرياضة؛ فإن سلامة النفس البشرية تحتاج إلى استقرار وسكون وهدوء وراحة بال. والإيمان بالله الواحد الأحد من أهم الحقائق التي تقر بها النفس وتستقر وتسعد.
ومن مميزات الإيمان بالله التوكل علي الله، لأنه يجنبك التوكل على العباد وما يصاحبه من قلق نفسي وتوتو وخوف من الآخر. ففي كل الحالات، التوكل على الناس يحتاج نفاق وتوافق بدون اقتناع فقط لكسب رضاهم وتتجنب شرهم. أما التوكل علي الله فهو يجعل النفس تعتمد على قوة بلا حدود فتهدأ وتستقر فينتزع منها الخوف طالما فعلت كل ما تستطيع بسلوك قويم ونية مخلصة.
والإيمان بالله يتطلب الإيمان بالغيب قولا وفعلا لكي يتحقق الهدوء النفسي كاملا. فعقل الانسان خُلق محدودا ولا يستوعب إلا ما توصل إليه من ملاحظات وحقائق. والدليل على ذلك على مستوي الفرد هو فهمنا لكثير من الأمور عندما كبرنا وقرأنا وأدركنا رغم أنها كانت مبهمة علينا ونحن صغار. وعلي مستوي الانسانية، هناك من الظواهر الكونية والبيولوجية التي كانت تمثل طلاسم وصناديق مغلقة، ولكننا فهمناها وأدركناها ولو جزيئا بتقدم العلم والتكنولوجيا.
ولأن عقل الإنسان محدودا، والكون حوله هائلا، والأحداث حوله متعددة وديناميكية ومتشعبة، ولا يجد لها في كثير من الأحيان تفسير منطقي بناء علي المتاح من المعلومات، فأحيانا يُصاب الإنسان بالحيرة والتوتر والقلق عندما يتعرض للكثير من الأمور التي لا يفهمها ولا يدركها سواء علي مستواه الشخصي أو المجتمعي أو الكوني. وهنا تأتي أهمية الإيمان المطلق بالغيب؛ الذي يجعلك تؤمن بالأشياء والأحداث دون أن تسأل وتجهد عقلك المحدود في الوصول إلى اجابات غير موجودة على الأقل في الوقت الحالي.
وتصل قمة الإيمان المطلق بالغيب عندما نؤمن بكل ما ذكر من غيبيات في الكتب السماوية حتى وإن كانت تبدو لنا كخيال علمي يستعصي تصديقه بما لدينا من معلومات. فعلي سبيل المثال، الإيمان المطلق بالغيب كما في قصة الإسراء والمعراج؛ يجعلك تتلذذ بإيمانك وعبوديتك لله ويخلصك من البحث عن الأسباب العلمية.
وقد ذُكر الغيب في القرآن الكريم في حوالي ٦٠ آية. ويكفي أن أول صفة للمؤمنين كانت الإيمان بالغيب كما جاء في الآية رقم ٣ بسورة البقرة في أول القرآن "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ" ﴿3 البقرة﴾، ثم في الآية ١٧٩ من سورة آل عمران "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ"، مما يدل على الأهمية القصوى للإيمان المطلق بالغيب. فالإيمان بالغيب هو دلالة قطعية على الإيمان بالله والإخلاص في عبادته؛ كما أنه يجعل النفس مستقرة ويدربها على الإخلاص وعلى القبول والتسليم بآيات الله حتى وإن لم نستطع أن نراها رؤي العين.
وفي هذا المقام يحضرني مثالا بسيطا. فإذا تخيلنا أن أحد من هذا العصر قد عاد ١٠٠ عام إلى الوراء في زمن الماضي ومعه كل المعلومات ولكن بدون تكنولوجيا، ثم أخبر الناس هناك عن التكنولوجيا نفسها. فقد يصدقه البعض لأن معلوماته تبدو علمية ومنطقية وما يصاحب ذلك من هدوء نفسي وأمل في مستقبل أفضل. وقد لا يصدقه البعض وما يصاحب ذلك من توتر وعدم استقرار نفسي. فالصنف الأول الذي صدق قد كسب هدوء البال واستقراره سواء حدثت التكنولوجيا في عصره أم لا. أما الصنف الثاني فقد خسر الهدوء واكتسب الجدال الذي سوف يخسره عاجلا في حياته أو آجلا بعد مماته.
فعلي كل مؤمن ألا يدع ايمانه بالله مشروط ولا يجعل عقله يقع تحت مطرقة التفكير فيما لا يعلمه، فأطفالنا لا يعلمون الكثير ونحن نعلمه وهو عندهم غيب مطلق. الإيمان المطلق بالغيب يحررنا من قيود الأسباب؛ ويجعلنا نحلق في عالم روحاني تحتاجه النفس لتستقر. والإيمان المطلق بالغيب يساعدنا في تقبل الكثير من الأحداث التي تجري حولنا ولا نستطيع أن نجد لها تفسيرا منطقيا واحدا، وبأن الله أرادها لأسباب غيبية يعلمها هو ونحن عنها جاهلون. والإيمان المطلق بالغيب هو الروح التي تطمئننا أن ما يحدث كل ساعة بل كل لحظة في الواقع وراءه أسباب لا نعلمها. وفي التصديق بآيات الغيب تدريب للنفس على قبول المعجزات، وأن الله قادر علي تحقيق ما نراه مستحيلا، وكيف أن الله يحفظنا في لحظات كنا نظنها آخر اللحظات لنا في الحياة.
التفكير والتدبر والتحليل مطلوب ولكن لفهم الغيبيات وليس لمحاولة التشكيك فيها وانكارها.
اللهم هدهد على قلوبنا وزد من إيماننا واجعلنا من الصديقين كما آمنا بك ولم نرك جهرة.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات