"العقل يتشكل بما يستقبله، فلنحرص علي جودة ما نستقبله وإلا أصبح العقل عبئا على صاحبه"


لاحظت أن هناك "تريند" واضح على "السوشيال ميديا" في إتباع أسلوب القصص والحكايات في الوعظ والتواصل الديني مع الناس من خلال التك توك واليوتيوب والوسائل الأخرى. يعتمد هذا الأسلوب على الحكايات والقصص في جذب قلوب المشاهدين لما يقال. ولاحظت أيضا أن الكثير من هذا القصص التاريخي ليس مستمدا من القرآن ولا الأحاديث النبوية الصحيحة أو القدسية وليس له مرجعية.


وعندما أقرأ أو أسمع تلك القصص، وخاصة من بعض المشهورين، عادة ما ينتابني هذا السؤال: من الذي كان هناك يستمع إلى أبطال تلك القصص وقام بكتابها ونقلها إلينا. من الذي كان يجلس مثلا مع الشخصيات التي يتحدث عنها القصص خاصة إذا كان الحدث المذكور في القصة لم يخرج عن اثنين فقط ولم يقم أحدهما برواية القصة. فمن الذي شهد هذا الحدث ونقله للآخرين.


قد يفاجأ البعض بهذا الطرح الصادم، ولكني عادة ما أحب طرح الأسئلة الصادمة، ولكن في أماكنها بما يخدم العقل. فعندما أسمع قصص وحكايات تاريخية سواء كانت متعلقة بالدين أم لا، أشعر بحقي الأصيل في معرفة المصدر والقائل، وكيف تم الوصول إلى أصل القصة لكي أطمأن لما أسمع حتى ولو كانت أحداث القصة منطقية وتحث على الفضيلة.


القضية بالنسبة لي ليست في القصة ذاتها والمدلول منها، ولكن الأصل في الطرح هو قضية "اعمال العقل" من قبل المؤمن فيما يسمع خاصة أن الله خلق الانسان وعلمه البيان من خلال اعمال العقل. فقد تكون أحد هذه القصص مؤلفة أو مدسوسة لغرض ما أو من الإسرائيليات التي تدعو إلى الشعوذة والتواكل.


وقد اضطررت في كثير من الأحيان إلى التعليق على العديد من القصص والحكايات التي سمعتها من شخصيات مشهورة على وسائل التواصل الاجتماعي والتي لها نسب مشاهدات عالية جدًا وذلك بسبب عدم اقتناعي شخصيًا بكيفية تسجيل ونقل القصة كاملة من مصدرها عبر الأجيال المتعاقبة. فمعظم هذه القصص تُعبر أحداثها عن موقف خاص جدا بين اثنين ليس لهم ثالث وليس لهم مصلحة على الإطلاق في ذكر الموقف لأنه قد يدينهم.


وعادة ما أترك مع تعليقي على فيديو القصة هذا التساؤل: من أين جاء النص الأول لهذه القصة المؤثرة، ومن شهد أحداثها وكتبها ونقلها. وللأسف الشديد، غالبا ما يكون أسلوب الرد على تعليقي من المتابعين قاسي ومنفر وهجومي بعيدًا عن الإجابة على مغزى سؤالي الذي طرحته والفلسفة من ورائه. وتلك هي الخطورة الكبيرة في تصديق الناس بالقصة والاقتناع بفحواها والاعتماد عليها في أمور حياتهم اقتناع نقلي وليس عقلي. والسبب وراء هذا التصديق النقلي الذي يسري بسرعة فائقة بين الناس هو العقلية العاطفية التي هي دائما جاهزة لتصديق ما يُقال بعيدا عن إعمال العقل.


وكمثال لهذه القصص التي لم أجد فيها مغزى يعود بالنفع على القارئ أو المستمع قصة الحجاج بن يوسف الثقفي مع زوجته هند بنت المهلب الخرسانية وطلاقه لها بسبب سَمَاعُه بيت شعر (وما هند إلاّ مهرة عربية سليلة أفراس تحلّلها بغفلان .... ولدت مهرا فللّه درّها وإن ولدت بغلا فقد جاء به البغل) قالته أمام المرآة تهجوه، بل تسخر منه دون أن تراه، ثم زواجها من الخليفة عبد للملك بن مروان بعد أن أِعجب بها. قصة اختلف عليها الكثيرين، وأنا شخصيًا بحثت عنها ووجدت شكوك في مصداقيتها. فكيف يتم ذلك وسط العلاقة القوية بين الحجاج وبين الخليفة عبد للملك. كيف يتم ذلك والحجاج كان أقوي رجل أمن في الخلافة الأموية والمعروف ببطشه المفرط وذلك بمعرفة الخليفة نفسه.


والقصة بأحداثها ذكرها بعض من الوعاظ المشهورين جدًا (بدون ذكر الأسماء) بتفاصيل وللأسف بأسلوب يميل إلى الظرف والفكاهة خاصة من موقف استهزاء هند بالحجاج وهو يسحب بنفسه لجام الجمل الذي يحمل هودجها؛ الحجاج الذي كانت تخشاه عامة الناس. فمن هو المستفيد من هذه القصة التي تُظهر عمدًا جمال ودهاء وقوة تأثير هند (من خراسان إيران) والاستهزاء من الحجاج الرجل الأقوى آنذاك ثم ميول الخليفة للزواج بطليقة أحد رجاله المقربين. شيء لا يصدق أن فيه مصلحة للمسلم.


وهناك أيضا قصة بنت فرعون وشفائها من البرص على ريق سيدنا موسي عندما التقطته من اليم وهو طفل رضيع. فمن كان هناك ليقص هذه القصة الطويلة خاصة أنها لم تذكر مباشرة في القرآن الكريم. وقد ذكر هذه القصة من قِبَل العديد من الوعاظ، ولكن عندما بحثت عنها وجدت اختلاف كبير في الآراء.


وبالطبع هي قصة مؤثرة وتتفق مع ما ذُكر عن سيدنا موسي ورقة قلب آل فرعون له وما تبع ذلك من قصة عودته لأنه لترضعه كما ذكرها القرآن وأحي لها الله بذلك وهي تلقيه في اليم وطمأنته لها بأن موسي سوف يعود إليها. والسؤال هنا ليس عن معني القصة، ولكن عن القصة نفسها من سجلها ودونها ومررها للتاريخ رغم صعوبة الفترة الزمنية التي وُلد فيها سيدنا موسي. فهل تم تسجيل هذه القصة علي ورق البردي أو المعابد، أم سجلتها آسية أمرأه فرعون والتي آمنت برب هارون ومرسي، أم ابنك فرعون نفسه. وكيف سجلوها وتم نقلها للتابعين من أهل فرعون أو من أهل سيدنا موسي.


ومن القصص الأخرى الشهيرة التي كنا نسمعها على المنابر وأحيانا على المقابر في بعض حالات الوفاة ما يروى عن سيدنا عمرو بن العاص وهو يصف لحظات الاحتضار بقوله أشعر كأن على كتفي جبل رضوى، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وأن روحي تُنزع منى كما ينزع الشوك من السفود، وكأن السماء أطبقت على الأرض، وأنا بينهما. فكيف يحدث هذا مع أحد كبار الصحابة وينسب له فضل إسلام افريقيا كلها حتى تقوم الساعة. وما الفارق إذا بين ما يحدث مع ابو جهل الملعون من الله مقارنة بسيدنا عمرو الصحابي الجليل والمُجاهد في سبيل الله. وبالتحقيق في هذه الرواية وُجد من تواتر رواتها أنهم لم يعيشوا في نفس المكان أو الزمان أو يتقابلوا أصلا.


وأنا هنا ضربت ثلاثة أمثلة فقط، مثال لقصة الحجاج كقصة اجتماعية وان كانت متعلقة بفترة الخلافة الإسلامية، وقصة ابني فرعون وهي قصة دينية في مهد الديانة اليهودية، وقصة شعور سيدنا عمرو بن العاص لحظة خروج روحه. وسؤالي هنا ليس لنكران القصص بقدر الاستفهام عن كيفية وآلية تدوين مثل هذه القصص أول مرة ليكون مرجعًا نعتمد عليه. قد يتعجب الكثير من استفهاماتي، ولكن قد يكون ذلك بحكم مهنة البحث العلمي التي تجعلنا دائما نسأل ستة أسئلة: ماذا، لماذا، متي، أين، من، كيف (قاعدة 5Ws+H). (What, Why, When, Where, Who, and How)


وهناك بالطبع العديد من القصص الأخرى التي يُظن أنها غير صحيحة أو على الأقل محرفة ويتم تداولها بشكل مبالغ فيه ويكون المردود منها سيء. قصص نصدقها بالعاطفة وليس بإعمال العقل، قصص نسمعها ونصدقها وتشكل وجداننا وفكرنا وننقلها للآخرين نقلا مرة حرفيا ومرات معنويا. قصص لا نعرف من سجلها أول مرة لينقلها لمن بعده.


العقل هو هبة الله للإنسان الذي به تعلم البيان. عقل يتدبر ويُميز ثم يصدق أو يعرض أو يكذب. وعندما يُصدق العقل يكون الإنسان أقوي وفكره أنفع لنفسه وللآخرين. أما العاطفة فهي باب مفتوح على مصراعيه لتلقي كل شيء سواء كان حقيقيا أو مُلفقا، وهنا تكمن الخطورة.


وقد تولى بعض العلماء تنقية السيرة من مثل هذا القصص متبعين نفس المنهج الذي استخدم في تنقية الأحاديث. فمثلا بالبحث في علم الرجال نجد ان بعضا من رواة هذا القصص لم يعيشوا معا في نفس المكان او الزمان. ولذلك وجب العودة إلى كل تلك القصص من التراث وتحقيق مدي صحتها والتنويه على عدم استخدامها من قَِبل الوعَاظ حتى يعتمد عليها الناس والحد من تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.


أتمنى أن يعتمد الواعظين ورجال التنمية البشرية على "إعمال العقل" بدلا من دغدغة المشاعر واستخدام قصص وحكايات لا نعرف مصدرها ولا الهدف من ورائها وفلسفتها في تشكيل الوجدان والفكر. إذا أردنا أن نعتمد على الأسلوب القصصي، وهو بالطبع أسلوب رائع ومشوق وفعال في جذب القلوب وإقناع الناس وأنا شخصيا أُحبه جدًا، فعلينا أن نعتمد علي القَصص القرآني خاصة أن القرآن مملوء بالقصص التي تُغطي جميع المواقف الحياتية.


نعم، علينا بإعمال العقل وليس القلب وأن نترك القلب ليصدق الإحساس بعد أن يصل إليه عن طريق العقل. وتقدم الدول يحتاج العقل قبل العاطفة، ولذلك لا بد من اعمال العقل في كل أحواله.


خالص تحياتي

ا.د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة بكلية العلوم جامعة طنطا

وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر

ومقرر مجلس بحوث الثقافة والمعرفة

أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا

[email protected]


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة