لطالما تسائلت وتسائلت منذ سنين عِدة؛ ما فائدة نشر أخبار الحوادث -تحديدًا- باهتمام يفوق الحدود في الإعلام -عمومًا-، وفي الجرائد والمجلات -خصوصًا-؟

ينهمك الكثير من الصحافيين في البحث عن قضايا جديدة تجري هنا، والتنقيب عن حوادث جديدة تقع هناك، وإبراز كل هذه المصائب في صورة أخبار تلقى على مسامع المتلقين، أو مانشيتات مفجعة لأنظار ووجدان القراء، ولكن؛ ما الفائدة؟!


وما زال هذا التساؤل -إلى الآن- يحير العقل ويؤرق النفس؛ ألهذا الحد بلغت مهنة الصحافة التي يطلق عليها "السلطة الرابعة"؟ ألهذا المنحدر ينحط بعض الصحافيون الذين يعملون في ضوء ميثاق يماثل ميثاق الأطباء، من الالتزام بالأمانة والخلق الحسن واحترام الذات وإجلال المهنة؟ حتى يتسابقوا إلى نشر مثل هذه الأخبار التي يُجزم الصغير قبل الكبير أن لا فائدة تذكر من البحث عنها فضلا عن نشرها. بل إن نشرها يجلب كوارث ومصائب أكبر منها، تصيب المجتمع في مقاتل لا يُحسَن السيطرة عليها، لشيوع هذه الأخبار بعد نشرها كالنار في الهشيم.


طبيعة البشر


خلق الله البشر بأنفس لا يملكون توجيهها إلا بعون منه سبحانه، وللنفس أنواع أشدها بلاءً الأمارة بالسوء، وهي لا تحتاج إلى دافع يدفعها حتى تأمر صاحبها بفعل السوءـ بل تحمله على فعله حملا، لذا كان في تسميتها مبالغة، فإذا رأى أصحاب هذه الأنفس وسمعوا وقرأوا مثل هذه الأخبار وهذه التفاصيل والتشريح الدقيق للجرائم والحوادث؛ ألا يُخشى عليهم -ومنهم- أن يفعلوا مثلها؟ ألا يُخشى على مجتمعنا من هذه البراكين الساكنة أن تنفجر؟


لعل من الإجابات السخيفة المطروحة أمام هذا التساؤل المحير الذي يبحث عن سبب الاهتمام غير المتناه بنشر أخبار الحوادث؛ هو أن لهذا النوع من الأخبار جمهور كبير من المتابعين والقراء، إما لأسباب نفسية أو لطبيعة البشر التي تبحث عن كل ما هو غريب ومثير، فتُقبِل إقبالاً كثيفًا على قراءة هذه الأخبار، مما جعل هؤلاء صيدًا ثمينًا لناشري الحوادث، فيدرّون عليهم أرباحًا طائلة من وراء ذلك.


وهنا أقول: إن كان شغف الناس بمتابعة الحوادث مبررًا كافيًا لنشرها والتمادي في إصدار صحائف وجرائد متخصصة لذلك، فللعلم؛ الكثير من الناس أيضًا شغوفون بكل ما هو مثير للشهوة وكل ما كان عاريًا من الصور، وبشكل أوضح؛ كل ما كان إباحيًا، أيكون هذا مبررًا لنشر الصور العارية وإصدار مجلات خليعة وفتح مواقع إباحية؟! فلننظر إلى عواقب الأمور قبل الشروع فيها، ولا يكن شعارنا "الغاية تبرر الوسيلة".


وقفات مع التاريخ


تمتلك مصر أكبر عدد من الصحف والمجلات الورقية على مستوى منطقة الشرق الأوسط. حيث بلغ عدد الصحف باللغة العربية في مصر حتى عام 2000 حوالي 470. ووصل عددها بحلول عام 2017 إلى ما يربو على 740 صحيفة ومجلة مختلفة. واعتبارًا من عام 2011 بلغ تداول الصحف اليومية في مصر أكثر من 4.3 مليون نسخة. مما يعني أن القارئ المصري المتمسك بالقراءة من الورق -آنذاك- كان يفرض نفسه على ساحة القراء بقوة، في زمنٍ هبطت فيه تكنولوجيا القراءة الرقمية هبوطًا اضطراريًا على مَدْرَج القراء والمتثقفين.


ومنذ صدور أوائل الجرائد في مصر وتضم كل منها -أو أغلبها- صفحة مستقلة تحت مسمى "حوادث وقضايا"، حتى جاء عام 1991م الذي أصدرت فيه مؤسسة أخبار اليوم لأول مرة؛ مجلة أسبوعية مستقلة بعنوان "مجلة أخبار الحوادث"، وأظن أن صدورها كان بعد دراسة؛ إذ كان الناس -قبل ذلك- حين يشترون أي جريدة يفتحونها مباشرة على صفحة "حوادث وقضايا" أو "الحوادث" كما كانوا يسمونها -تسهيلا-، حتى إنهم كانوا يتجاهلون الصفحة الرئيسة التي تحمل العناوين. فهناك جمهور كبير لمنتج صغير (صفحة الحوادث)، ومن باب تطوير المنتج وتحسينه، أصدرت مؤسسة أخبار اليوم تلك المجلة، ظنًا منها أن ذلك تطويرًا وتحسينًا بحق. ولم تلبث المؤسسة كثيرًا حتى أصدرت في العام نفسه (1991م) "جريدة أخبار الحوادث" الأسبوعية! فكأنها لاقت نجاحًا باهرًا من المجلة، فحولتها إلى جريدة.


كأنها حُمَّى


وظلت هذه الجريدة هي الوحيدة في مصر التي تختص فقط بنشر أخبار الحوادث لمدة 9 سنوات، حتى جاء عام 2000م الذي شهد أول محاولة من جهات خاصة لإصدار جريدة تختص بالشأن ذاته، فظهرت "جريدة الحوادث والمجتمع" الأسبوعية. وكأنها حمّى؛ إذ ظهرت في وقت لاحق من العام نفسه جريد أسبوعية أخرى بعنوان "حوادث اليوم"، ومنذ ذلك الحين توالت الصحف والجرائد والمجلات التي تهتم فقط بنشر الحوادث والجرائم، دون أي فائدة تذكر حتى الآن من نشر هذا النوع من الأخبار.


مانشيتات رخيصة


ويَحَارُ المرء في تفسير الدافع الذي جعل حَفْنة من الصحافيين يبتدعون هذا الأمر ويخصصون له جريدة هي الأولى من نوعها بوصفها سُنّة لمن يأتي بعدهم في هذا الشأن. ويزداد المرء حيرة عندما يطالع هذه الأخبار عديمة الطائل، ويقرأ عناوينها التي يصيغونها بخبث ومكر، واضعين أيديهم على مكامن الغرائز ومراكز الإثارة لدى القراء، وقد جمعت بعضًا من هذه العناوين (أو المانشيتات) التي صُدّرت في الصفحات الرئيسة لهذه الجرائد في أعداد وأزمان مختلفة كما يلي:


  • المجرمة قتلت طفل الخطيئة.
  • اتهام سيدة بإثارة كلب جنسيًا.
  • يارا.. اغتصبها ابن عمها.. وقتلها.
  • العريس مات بعد 90 ساعة عسل.
  • العاشقة ترقص على جثث أطفالها الثلاثة.
  • معلمة تقيم علاقة جنسية مع تلميذ عمره 14 عام.
  • السائق الحشاش سحل الصيدلي 250 مترًا "رايح جاي".
  • 40 ألف حالة طلاق بسبب شقاوة الأزواج على الإنترنت.
  • ديالا: تيتة ضربتني وحبستني في أوضة ضلمة. (مع صورة بريئة للطفلة).


تساؤل محير


أتسائل بصوت عالٍ: ما الفائدة التي ستعود على من يقرأ مثل هذه العناوين؟! ماذا استفدت حين قرأتُ معكم الآن أن امرأة قتلت طفل خطيئتها؟ أو معلمة فعلت فعلاً مشينًا مع تلميذها؟ أو "ديالا" التي ضربتها جدتها وحبستها في الظلام؟ أو حتى جريمة الإسماعيلية قبل أيام، التي صالت وجالت ووصلت أرجاء العالم، ما الفائدة من نشرها وتصويرها؟! أتمنى أن ألقى إجابة.


شريعة الإسلام ترفض..


يقول الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (النور:19). هل خطر على بال أحدٍ من مدمني نشر الحوادث أن فعلهم هذا قد يعد من إشاعة الفاحشة؟! لقد حرم الإسلام هذا الفعل أشد تحريم، ورصد لفاعله أشد عقاب؛ وهو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة.


ومعنى "أن تشيع الفاحشة": أن يشيع خبرها، لأن الشيوع من صفات الأخبار والأحاديث كالفشوّ وهو: اشتهار التحدث بها، والفاحشة هي الفعلة البالغة حدًا عظيماً في الشناعة. وإن من آداب المؤمن أنه لا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحبه لنفسه، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء، كذلك عليه أن لا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين.


ولشيوع أخبار الفواحش بين الناس -صدقًا كان أو كذبًا- مفسدة أخلاقية، فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها، وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها رويدا رويدا حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع، فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع، فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها، وبمقدار تكرر وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة، ويستسيغها الناس ويألفونها. وهذا من الخطر العظيم على المجتمع برمته، بالإضافة إلى الأثر النفسي السلبي الذي يقع على الناس من تداول هذا النوع من الأخبار,


الدراسات تقول..


هناك دراسات علمية أُجريت فى بعض الجامعات الغربية الكبرى أكدت أن الزيادة فى نشر أخبار الجريمة، خاصة جرائم الأسرة، وزيادة تداول أسباب ارتكابها وتداعياتها، عبر وسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعى، تؤدى إلى الرغبة فى ارتكاب جريمة مشابهة لها وتقليدها. ويعد الإلحاح على أخبار الجريمة الشاذة من خلال نشرها يؤدي إلى انتشارها بجنون.


يقول ياسر عبد العزيز -الخبير الإعلامى- معلقًا على معايير تغطية أخبار جرائم الأسرة بشكل خاص والحوادث بشكل عام، أن النشر يجب أن يتم بمستوى معتدل وألا نركز أو نفرط فى تداولها، ونقدمها دون تهويل أو تهوين، لأن عكس ذلك يمثل سقطة مهنية وجريمة بحق المجتمع.


أوقفوا تعليم الناس كيف يصبحوا مجرمين.

أوقفوا حمل الناس على استسهال الجريمة.

أوقفوا لفت أنظار الناس إلى تفاصيل الجرائم.

أوقفوا شيوع عقيدة المجتمع البلطجي.

أوقفوا انتشار وهم المجتمع السلبي.

أوقفوا نشر أخبار الحوادث.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد فرح متولي

تدوينات ذات صلة