من السهل أن تكتُب ومن الصعب ان تُبدع، فورقة وقلم كفيلة في خط خزعبلات ليس لها آخر

، وورقة وقلم أخرى كفيلة بأن تخط حروف كالذهب لا تصدأ مهما عرَّتها تقلبات البشر، حروف لا تنطفئ مهما بلغت رياح التغيير قوتها، لذا فالكتاب كُثر وعظمائهم قله، وفيدور دوستويفسكي أحد تلك الشخصيات الفريدة التي تركت بصمة إبداعية في تاريخ الادب. فلماذا يعد دوستويفسكي من أعظم الروائيين؟ ولماذا نرى اعماله لا تزال خالدة بعد مرور 200 سنة؟

المتمعن في سير حياة هذا الرجل سيدرك ان من اهم أسباب نجاحه هي التجارب المريرة التي خاضها، إذ نستطيع القول ان الحياة تلقفته تارة يمينا وتارة شمالا. فترعرعه في أحد أفقر أحياء موسكو وتذوقه اليتم في سن حساسة جدا، ثم عمله مهندسا ومترجما، ثم انتمائه لرابطة بيتراشيفسكي التي كانت وراء وقوفه على حبل المشنقة، وتخفيف الحكم عنه فاللحظات الأخيرة بأربع سنوات من الأعمال الشاقة، وتلتها ست سنوات في الخدمة العسكرية القسرية، بعدها عمله كصحفي فكتب ونشر وحرر وادمن القِمار وانحط الى درجة التسول. ناهيك عن معاناته مع الصرع، وموت ابنته، وتقلبات علاقاته كلها كانت مواقف فارقة في حياته ترجمها بأبها حله وبأبها بؤس وسوداوية داكنة كانت واضحة في صفحات رواياته، ومن قرأ لدوستويفسكي سيرى جميع محطات حياته (التي عرجتُ عليها بإيجاز تام) واضحة ساطعة وكأن قلمه نزف حبراً ودماً من مرارة ما مر به، وإن كانت روايته الاخيرة "الاخوة كارامازوف" هي الأشمل والأجمل والأعمق فقدم لنا تحفه أدبية خالدة جمع فيها كل ما حملته سنينه من فقر وبؤس وتقلبات مصيرية وحذاقات تحليلية في هذه الرائعة الأدبية.

.

عندما نقرأ نحب تقمص شخصية البطل وهذا طبيعي، لان المرء بطبعه يميل الى الأفضل لنفسه ولكن عندما نقرأ لدوستويفسكي هل جميعنا يحب تقمص شخصية أبطال رواياته؟ ولماذا نتحسس أنفسنا عندما يُسقط دوستو بعض التهم بلسان شخصياته؟

.

أما الشطر الاخر الذي أبقى دوستويفسكي على قمة الهرم الروائي هو تناوله لقضية لن تتغير مهما مر عليها الزمن، قضية "النفس البشرية"، فتركيزه على فهم طبائع البشر وتوغله في هذا الفهم الى حد الأعماق، فقدم لنا الإنسان القوي والهش، الجميل القبيح، الكامل الناقص، المتدين الجاحد. فيقول في الجريمة والعقاب "كيف للنفس الإنسانية تحمل في آن أسمى المُثل الى جانب احط الدناءات، وكيف ان الانسان يحمل في داخله قوة تنفيذ الجريمة ورغبة تحقيق العدالة"، ولان من أتكلم عنه هو دوستو فهو لا يكتفي بطرح اسئلته وتناقض شخصياته، بل هو يحلل في صفحاتٍ وصفحات أسباب هذا الاختلاف الذي يدفع الانسان للانخراط بالأمل والرغبة في حياه لا يمتلك معانيها امتلاكا كاملا فيتيه في البؤس وينقذه الدين وتقذفه الشهوة وتتسلط عليه الحاجة ويقع في حضن الطمع والجشع وتتداركه النخوة الفارغة. استطاع دوستويفسكي إيضاح الصراعات الداخلية في حياة ابطاله (نحنُ) نعم نحن جميعنا كارامازوف، وجميعنا كحال راسكولنيكوف نصارع أنفسنا الامارة بالسوء وشياطيننا من الانس والجن لِنخرج مما سقط هو فيه، وإن كان ألكسي ايفانوفيتش قامر بالروليت فنحن ادمنا أنواع أخرى من القمار فغدونا مستعدين لخاسرة أشياء واشياء متأملين في الحصول على شيء أكثر قيمة.

وهكذا بصم دوستويفسكي في الادب العالمي بفلسفة سطحية عميقة، سهلة وصعبة، فهو لم يخاطب جيل بل أجيال، ولان محتواه الرئيسي هو النفس واعماقها فهو سيبقى خالدا ما بقيت هذه الأنفس تقرأ.

ختاما اود القول ان منظمة اليونسكو أطلقت على عام 2021 عام دوستويفسكي وذلك تخليدا لمئويته الثانية.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

قراءة له مذلون مهانون وكانت تجربه رائعه ، لكن وبعد كمية الجمال التي اضفتها ستكون لنا وقفات معه بإذن الله.

إقرأ المزيد من تدوينات خالد الزعابي

تدوينات ذات صلة