وصف أدبي -يندرج تحت مسمى أدب الرحلات - لمدينة آنسي الفرنسية الواقعة على الحدود السويسرية
-آنسي- بعدسة الكلمات!
هل للكلمات عدسة؟؟ ربما تفشل ُ الكلمات أحيانا بالتصوير لكنها تصيب في أوقات غيرها، أما أنا فقررت أن أخوض التجربة! تجربة التصوير بالكلمات! إنها الطريقة التي تناسبني لحد كبير فلا تجعلني مقيدة بألة تصوير أو جوال بعدسة خرافية! كلّ ما يلزمني ليتم الأمر هو قدرتي على تخزين الصور داخل روحي ليتولى شغفي الققصي مهمة تحويلها لصورة مكتوبة بالكلمات وعندها أقول نعم للكلمات عدسة!
عشرة أيام قضيتها في ثلاث مدن فرنسية ساحرة أجبرتُ فيها مخيلتي على تخزين صور لأبهى المناظر الطبيعية، فأراني أسرح بعناق الجبل للغيوم تارة ثم أسرح برقصات الجداول و الينابيع من حولنا تارة أخرى! جمال الطبيعة الفرنسية غريب جدا بل فاتن جدا ! لكن ماذا عن فكرة اعتياد العين على رؤية المنظر الساحر من حولها!!
أعترف أنني بعد ثلاثة أيام من العيش في هذه الطبيعة الغناء ألفت روحي هذا الجمال، اعتادت عيني على رؤية الجبل الشاهق و الغيمة القطنية والعشب السندسي والبلابل والحساسين وغيرهم، ومللتُ فعلا من تخزين الصور في مخيلتي ، وعادت قهوتي لمزاجها الاعتيادي ورائحتها الطبيعية وهكذا إلى أن وصل بنا المطاف إلى آنسي المدينة الخرافية الواقعة على الحدود السويسرية على بقعة أرض مدللة بالسواقي والقنوات المائية ، تلك المدينة التي تجبر خيالك على اختراق الواقع لتعيش الفوضى العميقة والتي لن تستطيع حتما الهرب منها، وعندها سيتولى شغفك بجمال المدن مهمة تجديد مشاهر الدهشة والاستغراب ! وستعود الألوان تخترقك من جديد وكأنك تراها للمرة الأولى!
في آنسي من الصعب جدا أن تعرف أين أنت! أو من أنت ! فتشكيلها الرهيب بما فيها من شوارع ضيقة وجسور خشبية وكثافة أشخاص يجعلك شارد الذهن وأنت تتساءل أين أنت تقف في الحقيقة أم في الخيال!
شارع سانت كلير في آنسي خاص جدا لدرجة أنه ليس بإمكاني الآن أن أبث صورته المخزنة في مخيلتي لكنني أحاول!
شارع ضيق قديم يعود بأقواسه وطرازه العام للقرن السابع عشر! تحيط به القنوات المائية الواسعة،شارع بال رغم من ضيق جوانبه إلا أن المقاهي - القديمة والحديثة- أصرت على اتخاذ مكان لها في كل زاوية من زواياه لتترك لنا كزائرين حرية الاختيار فيما إذا أردنا أخذ قسط من الراحة على كرسي خشبي قديم أم على آخر بغطاء أبيض وشريطة لامعة!
في آنسي ستنسى النظر تجاه السماء ولن يعنيك الغيم ولن تجذبك القمم الشاهقة بالطبع لأنك تلقائيا ستنشغل بكثافة القادمين من كل مكان لزيارة المدينة! ستنشغل تلقائيا بتقدير عمر الأبينة المتفرعة من نوافذها الخشبية سلال الورد الأحمر والأصفر والأرجواني الرهيب!
نوافذ هذه الأبنية كانت وكأنها تدعوني لأقرأ قصة كل واحدة منها بشكل منفرد! فلا شك أن قصة نافذة الورد المتدلي نحونا تختلف عن قصة النافذة التي ترك الزمان بها شقا ولم يأذن له بالجبر حتى اليوم!
ما أحلاها ممراتها المائية التي تربط المدينة ببعضها لتشكل للزائرين فرصا خيالية للتنقل في المكان!حتى صغاري باتت تراودهم رغبة اكتشاف المكان، أحست قلوبهم بلا شك بأن المكان مختلف وصوت الماء المنساب مختلف وفكرة الاستسلام لجمال آنسي دون تصوير فكرة غير ممكنة فبدأت ألمى تصور واشتعلت غيرة تالة فعلا لتطلب القيام بالفعل ذاته!
في آنسي تشعر أنك إنسان جديد تختلف عن ذاك الذي كنت تعيشه من قبل، فجأة تختفي داخلك محفزات التوتر والعصبية تلك التي طالما كانت تصيبك وأنت تعيش يومك الطبيعي بعيدا عن حدود هذه المدينة!ليس ذلك فحسب بل إنها تدفعك تلقائيا لاستحضار كم هائل من الإيجابية فتجد نفسك باحثا عن أحلامك وطموحاتك، شغفك وتخيلاتك هناك بين ملايين قطرات الماء المتجمعة بالفعل لتشكيل ذاك المكان الرهيب
!لن أضيع فرصة قادمة - إن شاء الله - باكتشاف المزيد من هذه المدينة الساحرة، فحسب ما عرفت عنها بأنه قد فاتنا للأسف زيارة القصر والقلعة وجسر الحب وغيرها وذلك بالطبع لأن حجم اندهاشنا بجمالها أخذ وقتا أطول من المقدر له لاكتشاف المدينة بأكملها!
لذلك قرر - إن زرتها- أن تندهش بها بشكل ممنهج ومدروس حتى تستطيع زيارة كل معالمها الساحرة ولوحاتها الخيالية المتسللة للواقع عمدا !
حنان إدريس
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات