التطلع إلى الحياة بمنظار التفاؤل والصبر، حتى لا نشقى ونتعب في رحلتنا المؤقتة بها,

تهوي بنا الأيام في قعر الظلمات، لنجد أنفسنا في صراعٍ مع خصمين؛ الأول يأبى إلاّ أن نركع له ونصير أتباعا مخلصين له. والثاني يُصرّ على أن ينتشلنا من ضعفنا رغم ضآلة حجمه، وضعف قوته.

إنّ الإنسان مذ خُلقَ وهو يتخبّطُ بين دجُنّة اليأس، ونور التّفاؤل. تمرُّ بهِ أوقاتٌ مريرة تكسرُ ظهره، وتحيطُ رقبته بعقد التّأفّف أشبه ما يكون بحبلٍ يُضيِّق الخناق على صبره، ويضايقُ سعةَ صدرهِ، ليصبحَ بذلك لا يطيق حاله، باحثا عن أسهل السّبلِ، بل أعوجها ليتخلّص من ضيقه، ويوقفَ سرب الأفكار التي تُكدّر صفو عيشه. وفي أحيان أخرى تزوره لحظات الفرح والسّرور، لتُبهجَ حياته، وتزيحَ الغمامة التي كانت ضيفاً ثقيلا عليه، ليحلَّ محلها شروقٌ أتى كخضرٍ لينتشله من جُهمة الانكسار والضّعف. لحظاتٌ جميلةٌ تمرُّ عليه فيأسرها لتبقى حبيسةَ الذكريات، ورهينةً لديه لباقي الحياة؛ يُغذي بها فتوره، ويُضيء بها عتمته، ويُشعل بها خموده.

تتفاوتُ سعة التّحمُّل والصبر من نفسٍ إلى أخرى، وذلك راجعٌ إلى عوامل عدّة. ففي الضّراء لا يُمكن أن يفرض أحد ما تجربته على الآخر، مُرغما إيّاه على اجتياز نفس السّبل التي اجتازها هو ليتغلّب على أزمته ويتجاوزها، وإنما يجدر به أن يأخذ بيده، وينتشله من قعر العجز إلى ذروة الحزم. ذلك لأن طريقة التّعامل مع الأزمات، ولحظات الضّعف تختلف من شخص لآخر، كما أن الزاوية التي قد تنظر منها إلى المشكل لا تكون نفسها التي ينظر منها آخر، أضف إليها اختلاف أسلوب دراسة وتحليل المشكل. فعلى سبيل المثال، هناك من عايش الأزمات، وتعايش مع الضّيق والعسر مما قوّى أمله، وضاعف صبره، وفتحَ بصيرته، وجعله حكيماً رزيناً في مجابهة الحياة بوجهيها الخيّر والشرير. وفي المقابل، هناك من عاش الرّخاء، واعتاد رفاهة العيشِ ويسرها، مما جعله يغفل وجود العسر، ويتناسى وجوده إلى أن يتربّص به ويحلّ ضيفاً فجائيا لم ينتظر قدومه، أو يُعدّ العدّة لاستقباله. بذلك تنقلبُ رفاهيته شدّة، وتتحوّل حياته إلى شحنة من التّوتر والوهن. في هذه الحالة يحتاج المرء إلى إعادة حساباته مع مفهوم الحياة، ويقوم بتحديث المرادفات التي يؤمن بأنه على أساسها تتحقق الحياة المنشودة,

الحياة لا تقوم على خير دائم، أو شرّ مستمر، بل هي مزيجٌ منهما معاً، يأتي الشرّ أحيانا ليُعلّمنا الصّبر والتّحمل، ويأخذ بيدنا إلى الحكمة وحسن التدبير، ويجعل منّا أشخاصا ناضِجين معتبرين. ويأتي الخير أحيانا ليعلّمنا تِلاوةَ الشكرَ والثناء، ويفتح بصيرتنا للتّدبّر والتّفكر في النّعم التي تحيطُ بنا من كلّ حدبٍ وصوب، ويرقى بنا إلى الرّشد والرّشاد. الخيرُ هو سكّر الحياة الذي يحلّيها، بينما الشّر هو ملحها الذي يكسرُ طعم الحلاوة السّائغ، ليخلقَ بذلك نكهةً طيّبة مختلفٌ طعمهاّ، تبرهِنُ لنا أن امتزاجَ الحلوِ بالمالحِ يخلقُ مذاقا لا يتلذّذُ به إلاّ من ذاقه واستطابَ به.

نحن في هذه الدنيا خلقنا في تعبٍ ومشقّة؛ أي أن وجودنا في هذه الحياة قائم على تذوّق حلاوة الخير ومرارة الشرّ معا. فأن يتحقق الرّكن الأخير من أركان الإيمان وجب أن نرضى بقدرنا خيره وشرّه، ولنرضى بشرّه بمثل ما نرضى بخيره، علينا أن نربطه بحسن الظنّ واليقين بأنه يحملُ بين ثناياه الخفيّة خيراً عظيما، وأن نشكره سبحانه وتعالى في السّراء، ونصبر على الضّراء عملا بالحديث الشريف الذي يقول: عَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَان رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: "عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ." رواه مسلم .

ن الصّبرَ على الشّر وليدُ التّفاؤلِ وحسنُ الظّن، به يتقّوى إيماننا، وتسمو أنفسنا إلى مراتبِ اليقينِ. بينما الشّكر على الخير نتاجُ القنوع، به يتحقّقُ الاِزدهار، ونرقى إلى درجاتِ الاِكتفاء والتدّبر، وبهِ تحصلُ الزّيادة في الرّزق. السرّاء والضرّاء، والعسر واليسر، كلاهما مرادفين للخير والشّر على التّوالي. وهذين الأخيرين معا ينصهران في بوتقة الرّضى، لنستخلص منهما معدنٌ قيّمٌ، وجوهرة نفيسةٌ اسمها الإيمان.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات هاجر الدراز

تدوينات ذات صلة