نتمرّغُ في نعمٍ كثيرة لا نلقي لها بالا، ولا نعيرها اهتماما، فإذا ما حُرمنا منها أدركنا قيمتها ومدى غفلتنا.
تحلِّقُ الذّكرياتُ معانقةً أحضانَ الحاضرِ في سرور، لتُرفرِفَ أجنحةُ الحمدِ والشُّكرِ على طَرَفِ اللّسَان.
يَعودُ بِنا شريطُ الحياةِ لأيّام كانَ الحرمانُ عنوانها، والكدّ مِفتاحها، لنغلقَ بابَ المعاناة في أملٍ وحبور، ونفتَح إبّانها باباً لطالما تمّنيناه، وطالَ انتِظَارنا للُقياه، وبالدُّعاءِ والصّبر سُقنَاه. إنه بابُ"دوامُ الحالِ من المُحال". حيثُ لاَ مَكانَ لِليأسِ أو القَنوط. بابٌ وسِعتْ فيهِ رحمةُ الخالقِ وقدرتهُ كلّ شيء. حيثُ القناعةُ تغزُو كلّ شبرٍ، والرّضى يتَدفّقُ من غدَقاتِ الرّوح فيسمو بها إلى مراتِب الإيمانِ والتّصدِيق.
إنّ الأرزاقَ نصيبٌ. لا ينالُ المرءُ إلاّ ما جادَ بهِ نصيبُه وقِسمتهُ. قد يكونُ نهرُ الرّزق شحيحٌ قليلٌ بدايةً، تنزلُ عليهِ قطراتُ ندى الكدّ والعملِ تارةً، وتصبُّ عليهِ سماءُ الحمدِ غيثاً تارةً أخرى. إلى أنْ تهطِلَ عليهِ شلاَّلاتُ رحمةِ الخالق ليفيضَ ويغنَى، فيَسقي أفئدة المحتاجينَ لِترتَوي، وينفِقُ في سبيلِ الخيرِ أطناناً فلا يَنقضِي، بينما لاَ يرُدّ كُفوفاً مُدَّتْ إليهِ بحاجةٍ إلاّ ويهُمّ بقضائِها بصدرٍ رحبٍ.
نهرٌ إنْ سُخِّرَ للخيرِ، في خدمةِ الخيرِ، مِن أجلِ عُمومِ الخيرِ، وَلَم يمنَعهُ الرّخاءُ والوفرةُ مِنْ أداءِ شَعائرِ الشُّكرِ، وتلاَوةِ صلاةِ الحمدِ. احتوتهُ فَضائلُ العطاءاتِ الإلاهيّةِ الّتي لا مُمسك لها سِواه.
إنْ كُنتَ فقيرَ النّصيبِ أتاكَ رِزقُكَ مُهروِلاً كخِضرٍ مِن حيثُ لا تدري ولا تحتسِب. مادامَ الشُّكر للِّسانِ رفيقاً، والقلبُ عفيفاً، واليدُ لا تُمدُّ لقَبولِ حرامٍ وإن بَلغَتْ بها الحاجَة مبلغاً عظيماً، وتَقطَّعتِ السُّبلُ،واشتَدّتِ المطالبُ الأساسِيَّةُ حتّى تَكادُ تنخِرُ الرّوحَ؛ بِنظرةِ رجاءٍ إلى السّماءِ، وكلمة تَتلُو الدُّعاءَ في إلحاحٍ، نَزلَت أًَمطارُ خَيراتِهِ لترويَ ظمَأَ حاجتِك وزِيادَة.
نعيشُ في فيضٍ مِن النّعم التي اعتَدناها فأصبحنا نظُنّ أنّ وجُودها إلزامِيٌّ، أو أمرٌ إعتياديٌّ لا يستَحِقُّ وَقفةَ تأَمّلٍ أو تفَكّر. فالمرءُ لو تدَبَّرَ حالهُ وأحوالهُ على الدّوام، وقارنَ نفسَه بمن يقِلُّونَ عنهُ في الرّزقِ والنِّعمِ، لجفَّت عبِراتهُ من هَول تَقصيرِهِ، وسوءُ تدبيره.
بعضُ النِّعمِ كنوزٌ لا يُقدِّرُ قِيمتها الثمينة إلا منْ ذاقَ طَعم الحِرمان منها. فالبصرُ الّذي نُسخّرهُ في الاطِّلاعِ على المشاهدِ المُخِلّةِ بالأدبِ، هو أمنية الكفيف الذي ذَهبَ عنهُ نورُ البصرِ فحلَّ محلّه ظلامٌ يرافِقه ليلَ نهار. أقدَامنا التي نمشِي بها إلى التَّهلُكةِ، بمثابةِ حلُم جميلٍ لِمن بُتِرتْ قدماه فحُرمَ نِعمةَ المشيِ إلاّ بالجُلوسِ على كرسيّ مُتحرّك. لسَاننَا الذي ينْطِقُ بالشَّرّ فيُدمِي بِقُبحِ أقوالِهِ أفئِدةً نَقيَّةً طاهرةً، وآذاننَا التي نسمعُ بها اللَّغوِ، وتُصغي بحُسنٍ إلى النَّميمةِ؛ هُما للِصُّم البُكم رجاءٌ وقَد حٌرِموا نِعمتَي السّمعِ والنُّطقِ فلاَ يعقلُونَ شيئاً إلاَّ بالاِعتِمادِ على لغة الإشارَات. ناهيكَ عنِ الدَّخلِ الّذي يقبضُهُ عازِبٌ فلا يسُدُّ مطالِبهُ المُتكلّفة اللاَّمتناهية، لربّ أسرةٍ بِمثابةِ راتبِ خمسةِ أشهرٍ من الكَدِّ المتواصلْ. الإبنُ الشَّقيّ الّذي أرهقَ طاقَة الجِسمَ بشغبِهِ المستمِرّ، لِعقيمٍ أمنيةٌ طالَ انتظارُها، فَلم يَفقِد إيمانهَا صبْرهُ، أو تَزَحزحَ يقينهُ.
في خِضمِّ الأوضاع الّتي يعيشُها العالم إثر جَائحة فيروس كوفيد 19، والتزاماً بشُروط التّدابير الوقائيّة وتَفعيلِ الحَجر الصحي ، تجمَّدت جُلّ النّشاطات الاجتماعية والاقتصادية، وذاكَ للحَدّ من انتشار الوباء، ومَنع تفَشّيهِ في أرجاءِ المملكةِ بأي شكلٍ من الأشكال. فَبَعدَ أن كانَت مُغادرة البيتِ أمرٌ سهلٌ لا يتطلّبُ أيّ التزامٍ أو تَصريحٍ، أصبحَ من الضّروريّ التّزوّد بتصريحٍ مُصادق عليه، مع تبريرٍ يُوضِّحُ السّببَ الّذي أَرغمَنا على مُغادرة المنزل. وبهذا فإن الحَقَّ بالخروجِ أصبحَ خَرقٌ للقوانينِ إذا ما تمّت مُصادرتُك خارجاً دون إذنٍ رسميّ. حياتُنا العادية التي كنّا نَملُّها سابقاً،أصبحتْ العودةُ إليها أمنيةً وحيدةً يتَمنّاها كلّ أفراد العالم. ذاكَ العيش الرّتيب الّذي كُنّا نضجرُ منه سابقاً، أصبحَ الآن جُلّ أمانينَا. لنكتشِفَ فجأة كمَّ النّعم التي كانت تُحيطُ بنا ولا نُلقي لها بالاً أو اهتماماً؛ تَجمُّعاتُنا اليَوميّة، دراستُنا المُتعِبة، عَملُنا المُرهق، نشَاطاتُنا الروتينيّة...وغيرها من الأشياء الّتي كُنّا اعتدنا وجودَها الدائم، فلم نُدرِك حجمَ قيمتها إلا الآن.
إنَّ النِّعمَ عديدة تَغمُرُ ثَنايا وجودِنا، فلا ننتبهُ لها. تُلاَزمنا كُلّ حينٍ أينما رُحنا أو جِئنَا، هيَ ظِلُّنا، وقرِينُنا الذي يرانَا ومِن غَفلَتِنا لا نراهُ، إنما نُحِسُّ بِوجودِهِ إلى جانبِنا. هِي معزوفةٌ تستقبلُ صَباحنَا، وتُوَدِّعُ مساءنَا. هي شمسٌ تُضيءُ حَياتنا بِنورٍ نراهُ خافتاً لأننا اعتَدنا عليهِ، ولا نُقِرُّ بِتوَهُّجِهِ إلى حينَ يغيبُ عنّا،أو يتغيَّبُ بأمرِ آمِرٍ ونهي ناهٍ يَملِكُ زِمامهُ وزِماننا.
النِّعمة رِزق، والرِّزقُ نعمة. فَلا يُبَجِّلُها إلا من ذاقَ مُرَّ حرمانها. وتَقطَّعَت أواصِله لفُقدانِها، بينما استَكانَ الفُؤادُ لقضاءِ مَالِكِ الملكِ الذي بيدِه مَلكوت كلّ شيء، وأذعَنتِ النَّفسُ بِحُسنِ إيمَانِها، وعِظمِ رِضَاهَا. فتَمجِيدُها يتَوَجَّبُ على من يمتَلِكُها في حَضرتِها، وأثناءَ حُضورِها، والتَّأمّلِ في عددِها الذي يُعدُّ ولا يُحصى. فالشُّكرُ مهيعٌ مُفضي إلى تَعظِيمِ دوامِها، وتَقبُّلِ زوالِها. هو معزوفةُ شجِيّةٌ إنْ تعوَّد اللسانُ تَرديدها، أطربت مسامعَ الوِجدانِ، ورَيّحت فُؤادَ النَّفس، بينَما كرَّرتها القناعةُ على آذانِ الرُوح لِتلينَ وتستكينَ.
لُغة القناعةَ لا يُجيدهَا من شبَّ على التَّذمُّر والتَّأفُّف، ورَبطَ اكتِفاءَهُ بِمعبودٍ، وغُلّت يداهُ عنِ الكدِّ والتّعبِ من أجل توفير قُوتهِ، بينما عَقدَ عَزمهُ على انتِظارِ الرّزقِ أن يأتيهِ دونَ بحثٍ أو تنقيبٍ عنهُ. مَن يَتَّكِلُ على النّاس، ويُفضِّلُ لقمةً جاهزةً تأتيهٍ دونَ أن يتصبّب جبينه عرقاً، ويُحِسّ بمرارةِ الجُهدِ المبذول، أو أن يتذَوّق حلاوةَ الكسبِ الطّيّب. هي بصِيرةُ الأنفس المعطَاءة، والقلوبِ الفيّاضة، والأيدي المبسوطةِ إلى المُحتاجِ كلّ البسط، والعيونِ الّتي تنظُرُ برضى واكتفاءٍ إلى النّصفِ الممتلئ نِعمٍ من كوبها. هي تُرجمانُ الرّوحِ العفيفة، والذّاتِ الشّريفة.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات