قال ابن عربي : “كل بقاء يكون بعده فناء لا يعوّل عليه.. كل فناء لا يعطي بقاء لا يعوّل عليه”
كنت أقف بينما كان ينظر هو لي..
لم يكن ينظر نظرةً عابرة بل كان يتفحصني.. نظرة أظنها جردتني مما علي, ينظر لشيء بداخلي!
لم يشبه العابرين بل كان كمن يعرفني.
يعرف كل تفاصيلي ,وحالي وأنه يشبهني ..
لم أفهمهُ ,هل هو محبٌ أم تائههٌ وغريب؟!
أصدرت صوت صغير لأنبهه بأني سأغادر..
لا أعلم لما أُعجبت بذاك الغريب.. ربما لشعوري بأنه يعرفني جيدًا !
ترنحت قليلًا أمامه كبائعة الهوى فتلفت يمينًا ويسارًا وكأنه يشك بأني أقصده هو لا غير..
يريد أن يأتي ولا يريد أن يذهب..
يريدني لذاتي ولا وجهة سواي!
جاءَ..
تلمسني قليلا وهو يسير..
بعد لحظات ألقى برأسه على كتفي وتمسك بي جيدًا وكأنه يخشى الهروب.
شعرت بأني أحمل صغيرا , شريدًا , عصفورًا لا مأوى له غير كفّي..
رأسه ثقيل فتساءلت: كيف لذاك الوديع أن يحملَ جُلَ العالمَ في رأسهِ؟!
تحركنا, وددت أن أتلمسه ولكن لم أفعل.
صوتي عالٍ..
هل يشعر بالخيانة لأني ناديت الكثير غيره؟
كان لفترةٍ يضم حقيبته وكأنها كل ما يملك, فجأة; رفع رأسه ورماها..
_أمتعبٌ يا حبيب؟
أعاد رأسه والآن أرخى كل جسده وكأنه يتخلى عن العالم.
همس في أذني:
كم من العابرين حملت وكم غريب وضع رأسه قبلي..
لم أنطق.
نظر للعالم وكيف نقطعه سريعا وقال:
أحبك لأن من خلالك تتجسد المعنويات, أرى سرعة البشر حرفيا وأن كل شيء لا يدوم..
أن كل الأشياء تتغير وأننا لن نمكث طويلا في أي مكان, لا في قلوب من أحببنا ولا الدار التي حملتنا..
حتى الأوطان!, أصبحت عاجزًا عن تعريف الوطن, ما هو؟ أتراك تحمل إجابة؟
-شريد يسأل رحالة؟! سخرت
أكمل:
حب وعتمة, ألفة وغربة , كتب وشعر طويل, قطار وحسناء..
سأخبرك سرًا:
وأنا صغير كنت أكره الفلسفة وأن المتفلسفين يتفلسفون.. وهراء من فم الغراب.
الآن أحب الغربان وأعشق النعيق
لا ,فعلا أحب الغربان وليس الفلاسفة.
لم أقابل فيلسوفا حقيقيا ولكن فهمت وجهة نظرهم ولما اتجهوا لذلك..
الحياة ما هي إلا فلسفة كبيرة.. هي عبارة عن أن فردًا يرى فكرة من منظوره ويحاول أن يصيغها بما يناسب مستوى عقله, الاختلاف هو أن الفلاسفة يرون أن باقي الكوكب لا يفهم, فلا يتكلفون في محاولة تبسيط الفكرة..
شعارهم: من فهم فقد فهم ومن لم يفهم فلا داعي.
أأنا أتفلسف الآن؟
كل هذا وهو على كتفي وقد نسي..
رفعها فجأة وكأنه تذكر شيئا لتوه, حمل النكرة من على الأرض وأخرج منها كتابا ومنه قلمًا ونقش على عضُدي وكأنه يرسم وشمًا:
” أين من سادوا وشادوا وبنوا***هلك الكل ولم تغن القلل” - حسن البنا
وتذكر شيئا آخر فكتب:
“اخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق، المحشوِّ بالآفات إلى الفناء الرحب، الذي فيه ما لا عين رأت؛ فهناك لا يتعذر مطلوب، ولا يفقد محبوب.” - ابن القيم
ومن ثم استعذ بالله وجاء يفتح المصحف فتوقفت أنا وترجل هو مني ..
تركته عند محطة القطار وناديت مجددا ..
لأحمل بداخلي غريبًا آخر شردته الحياة!
التعليقات