في خضم الأزمات تخلق عادات جديدة و رؤى مختلفة و نعيد ترتيب الاوراق في مكانها الصحيح..



يعيش العالم اليوم في سجن كبير من أدنى الأرض إلى أقصاها بسبب ما يسمى "كورونا"..

و كثيرا ما نسمع العبارة التي تقول بأنه غضب من السماء حل بأهل الأرض..

هذا ظاهر الأزمة حقا ..غضب و قسوة و بلاء حل على البشر!!!


و لكن فلننظر إلى اللوحة من زوايا أخرى..

كثير من البشر في هذا العالم قد عاش تجربة مريرة في السجن و ظن حينها بأنها نهايته و نهاية العالم الذي لا يتضح فيه بصيص أمل للمستقبل ..

ثم يخرج بعدها بشهر أو أكثر و تكون قد صقلت شخصيته و ازدادت ثقافته و تعلم أشياء في مدرسة الحياة ما كان ليتعلمها لولا تلك التجربة ..


حتى في لحظات الألم الشديد يوجد ما يمنحنا الحياة..

فكما يقول فيكتور فرانكل في كتابه الشهير "الإنسان يبحث عن المعنى" : "إنّ كل شيء نعيشه يمنح حياتنا معنى حتى المعاناة و الألم التي يعيشها البشر في أحلك الظروف لها معنى تمنحنا الحياة".

فالدكتور فرانكل كان قد عاش أقسى أنواع السجون و هي سجون النازية أيام هتلر التي ما نجا منها إلا قلة قليلة و التي كان التعذيب فيها فوق طاقة البشر..

على الرغم من هذا و من كل ما عايشه الطبيب من قتل عائلته على يد النازية إلا أنه استمر في الحياة، و نقل لنا تجربته التي جاءت على شكل كتاب رائع هو اليوم مرجع لعلماء النفس..


كما أن معاناة نبينا الكريم ليست بالغريبة علينا ..

فعندما أخرجه قومه من مكة بعد تعذيب شديد له و لأصحابه هاجر إلى المدينة غريبا لا يعرف أحدا هناك..

و في وسط كل ذلك تسطع أنوار الدعوة و يلتف الناس حوله يحبونه و ينصرونه ليعود بهم بعد ذلك إلى مكة فاتحا..

و هكذا نرى بأنه على قدر المعاناة و الألم تأتي الأقدار الجميلة و العوض المدهش..

ثم نرى بأن حتى غضب السماء هو رحمة لأهل الأرض..

فهل يستطيع أحد أن يتهم أما غاضبة من ابنها المهمل في دراسته بأنها أم سيئة..

أو عندما يغرق الابن في المخدرات مثلا هل نتوقع منها أن تحنو عليه و لا تفعل شيئا..

أم أننا سنرى قسوتها في قمة الرحمة لهذا الطفل الذي لا يعي ما يفعله..


نعم إنه غضب في داخله الحب..

ظاهرها قسوة و باطنها رحمة..

هكذا هي المحن ..

شر في داخله الخير ..

ظلام يكتنف النور ..

رحمة في صورة عذاب..

كيف للربيع أن يأتي دون أن نقاسي برد الشتاء؟!!

و هل كنا سنعرف بجمال الربيع عندئذ!!!

فلولا وجود المتناقضات لما شعرنا بقيمة الأشياء..

كالصحة التي نقدر قيمتها عند المرض ..

و الشمس التي نشتاقها في أيام الضباب..

و الحرية التي نتذوقها في السجون..

و الغربة التي نعرف بها معنى الوطن..


في خضم الأزمات تخلق عادات جديدة و رؤى مختلفة و نعيد ترتيب الاوراق في مكانها الصحيح..

العالم اليوم بحاجة أن يتمهل قليلا و ينظر إلى الوراء..

يقلب في الماضي، ليس للبكاء على اللبن المسكوب و لكن لتصحيح الأخطاء و تدارك العثرات..

الجميل في هذا كله بأننا اليوم نقضي وقتا أطول مع عائلاتنا لنمتلأ طاقة و محبة نعود بهما إلى ضجة الحياة و صخبها ..

نحن نجلس في البيت لنتذوق طعم الحرية التي فقدناها..

لنشتاق جلسات الأصدقاء و حديث الأحبة..

لنملأ فراغ وقتنا باستثمارات مفيدة..

لنملأ فراغ أرواحنا بما تعطشت إليه..

لنحاسب أنفسنا قبل يوم الحساب..

لنستشعر الموت الذي غفلنا عنه طويلا..

لنعرف قيمة العلم و العلماء و أنهم وحدهم اليوم من بين البشر جميعا قادرين على إنقاذ المجتمع..

لنعلم أننا على مركب واحد إذا غرق أحدهم فسنغرق جميعا..

لنخاف على البشر و نحبهم كما نحب أنفسنا..

لننقذ أنفسنا بإنقاذ غيرنا..

لنعلم كل العلم أن الخير كل الخير في هذا الشر ..

و أن الرحمة كل الرحمة في هذا الغضب..


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات هديل المصري

تدوينات ذات صلة