كيف السبيل إليكِ يا نفسي؟ كيف تسكنينني ولا أعرف عنكِ شيئا؟ كيف لي أن أجد الأُنس وأنا غريب عني؟
يجول الإنسان منا بين صفحات الكتب ويقرأ من العلوم ما تشابه واختلف ويغوص بعقله في غياهب التفكير فقط ليصل إلى إجابة واحدة لسؤال واحد يعتقد أن بإجابته ستستقر اضطراباته وستطفأ نيران الحيرة المتقدة بين جوانبه. وقد فعلتُ، فما وصلت لإجابة تفي السؤال، ولكن عرفت -أو اهتديت- إلى ما أظنه وراء هذه الإجابة من أسرار وسُرار.
فلو طُلب مني أن أذكر ماهية الإنسان لجعلتها إلى ثلاثة أٌجزاء؛ وكل إنسان في نظري جسدٌ ونفسٌ وروح. أما الجسد، فهو ما يظهر لنا من لحم وشحم وبباطنه قلب وعقل، وذاك العقل هو الذي يحمل الإنسان منا على التفكر والتدبر في ماهيته وفي نفسه وفي روحه. أما النفس، فهي ما يتطبع به الإنسان وما يُفطر عليه من كرم وبخل وسماحة وحقد ولين وغلظة وما إلى ذلك، وهي التي وصفت بأنها أمارة للسوء، وهي التي تحب وتهوى وتُهيء العقل ليذلل لها سبل الوصول إلى ما هوته، فتحكمه أحيانا ويحكمها أحيانا ويزنهما في ذلك ميزان المنطق.
فلو ابتغت النفس شيئا يتصرف العقل في خلق سبيل لذاك المُبتغى، ثم يضع المنطق المبتغى في كفة ويضع السبيل إليه في الكفة الأخرى. فإذا رجحت كفة السبيل تنول النفس مبتغاها، وإذا خفت كفة السبيل وثقلت كفة المبتغى شَقَتْ النفسُ وعَيَتْ وأعيت صاحبها بما ابتغته ولم تهتدِ إليه. أما الروح، فهي ذلك السر الإلهي الذي استقر في القلب، أمرُ الله الذي يسري فينا ويبث فينا الحياة، وهي التي تبقينا على صلة بالملكوت الأعلى. بها نسمع صوت اليقين وبها نعرف الله ونحبه وبها يحبنا الله وينظر إلينا ويذكرنا في الملأ الأعلى. وعلى عكس النفس التي تبتغي وتهوى، الروح تطمئن وتسكن، وعلى عكس النفس الأمارة بالسوء، الروح تصبو إلى السكينة والجمال، وعلى عكس النفس التي تُسَير العقل ويسيرها، الروح يسيرها الله وتناجيه.
وخلق التوازن بين هذه المكونات الثلاث أمر جلل، فلو رضي أحدهم ينزعج الآخر، ونحن بين إرضائهم نتقلب، فتارةً نريح الجسد، وتارةَ نسعى لإسكات صخب النفس، وتارةً نُسلم لأمر الروح؛ فلا تجتمع راحة الثلاثة إلا بمعجزة إلهية، ولا بأس في ذلك طالما لا نتجاهل أمر أحد منهم عمدا، وطالما يتداولون بينهم الراحة كيفما يلزم.
ومن هذه النقطة نستطيع أن نتعرف إلى الإنسان منا، بالطريقة التي يتعامل بها مع طبائع نفسه ومع صورة جسده ومع اتصال روحه بربه.
غير أننا لا نكون محكومين بأن يكون لنا طبع واحد للنفس نعرفه، ولا ملزمين بأن يكون لنا صورة للجسد واحدة نعرفها، ولا مجبرين على أن نعرف طريقًا واحدًا بين الله وأرواحنا. فالأيام دول، وحياتنا تتغير كل يوم حتى دون أن نشعر، ننتقل من وضع لآخر وتسوقنا الأقدار إلى أماكن شتى، سواء شئناها أم أبيناها أو خططنا لها أم لم نفعل، وعليه سيكون من السخف بنا أن نعتقد بأن لكل إنسان منا قالب واحد يتشكل عليه طوال حياته ومتى ما اهتدى إليه تختفي حيرته. فالأجدر أن يكون الأمر أشبه برحلةٍ استكشافية لأرض لم تطئها قدمٌ قبلك، أرض هي موطنك، كلما عرفت فيها شبرا جديدا أحببته وتطلعت أن تعرف ما وراءه وما بعده.
لن تصل إلى نفسك بين يوم وليلة، أو تسبر أغوارها بين تجربة وأخرى، بل أنت تقترب من نفسك خطوة بين يوم وليلة، وبين تجربة وأخرى تصبح أقرب للحقيقة. تلك الحقيقة التي تبدو سرابا، كلما تظن أنك عرفتها تراوغك وتختبئ منك، ولكنها بمراوغتها تلك تبقيك على قيد الحياة. كل إنسان تقابله وكل مغامرة تخوضها وكل كتاب تقرأه وكل روح تألفها ما هم إلا محطات تخرج لك جزءًا جديدًا منك قد آن أوان التعرف عليه؛ فلو أنك عرفت نفسك معرفة كاملة -أو وجدتها كما تقول العبارة- لما أصبح لرحلة الحياة معنى، هذه الرحلة التي كلما قدمت فيها أصبحت أغنى، أكثر إدراكا لذاتك، أكثر صلةً بروحك وأكثر رغبة بأن تعرف المزيد عنك.
ولا أجد خلاصةً للقول أفضل من قول ميخائيل نعيمة: "أنت فيضٌ من إله"؛ فرفقا بنفسك عزيزي ولا تستعجل المعرفة، استمتع بفكرة أنك تتعلمك.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات