لطالما كُنتُ مؤمنة إن النجاح الحقيقي ليس له علاقة لا بمستوى تعليمي ولا بمستوى مادي
وإنما بالشخص نفسه وبمدى إيمانه بحلمه الذي يكون لخدمة المجتمع لا لكي يزهو بنفسه، كذلك بمدى صدقه مع نفسه ومع من حوله. وهذا المفهوم تجسد في قصة زعيم أطلق العالم عليه لقب نصير المحرومين وزعيم الفقراء. زعيم كانت كل مؤهلاته شهادة حب واخلاص لوطنه، مقرونة بشهادة الإصرار على خدمة مجتمعه وتحسين أحواله. إنها قصة "لويس أناسيو لولا دا سيلفا" الرئيس البرازيلي السابق، الرئيس الفقير الغير متعلم، الذي ربته أمه فقط.
هذا الرئيس الفقير هو الذي جعل البرازيل ودولاً أخرى في أمريكا اللاتينية -بسبب قوتها الاقتصادية- تعترف بدولة فلسطين متحدياً إسرائيل وأمريكا وكل الجهات التي تقف خلفها!
هذا الرئيس الذي نهض باقتصاد البرازيل من تحت خط الفقر لتصبح في عام 2014م خامس اقتصاد في العالم، والذي عندما انتهت مدة رئاسته رفض أن يعدل الدستور بالرغم من رفض 80% من شعب البرازيل رحيله عن الحكم. هذا الرئيس الفقير هو الذي جعل البرازيل ودولاً أخرى في أمريكا اللاتينية -بسبب قوتها الاقتصادية- تعترف بدولة فلسطين متحدياً إسرائيل وأمريكا وكل الجهات التي تقف خلفها!
الفقر ليس عيبا وإنما العيب أن يمد الإنسان يده ويستسلم للفقر
ولد بطل قصتنا في كوخ -أقل من متواضع- خلف ناد ليلي في أسوأ الأحياء الفقيرة بالبرازيل، وكان ترتيبه السابع وسط ثمان أطفال. كانت أسرته فقيره إلى درجة لا توصف، وكانت أمه تتمنى أن تعلم أبنائها بعدما تخلى والدهم عنهم، لذلك دفعت بطلنا ليبدأ دراسته في سن مبكرة، وكانت تعلمه كيف يمشي مرفوع الرأس، وكيف يحترم نفسه كي يحترمه الناس. وتعلمه أن الفقر ليس عيبا وإنما العيب أن يمد الإنسان يده ويستسلم للفقر، وأن السعادة ليست في المكان والملبس الفخم ولا بكثرة الأموال، ولكنها في الإخلاص بالعمل والجني الحلال وفيما تقدمه للبشر في أي مكان. وعلمته أن دماثة الخلق ليست ضعفا، بل قوة، وكانت تقول له: مهْما لاقيت من غدر فلا تقابل الإساءة بالإساءة، بل قابلها بالإحسان، كانت –كما ذكر في أكثر من خطبه- تعلمه حب الوطن وحب خدمة الفقراء ومساعدتهم. كانت أمه مدرسة تعلم منها الأخلاق، فتسلح بهذه الأخلاق وكانت النبراس الذي يهتدى به طوال عمره كما كان أكد هو في أكثر من لقاء.
وبسبب المعاناة الشديدة والفقر الذي أحاط بأسرته، أراد أن يساعدهم ليخفف عن أمه الحمل، فتوقف عن التحصيل الدراسي في السنة الخامسة من التعليم الأساسي، واضطر إلى العمل كماسح للأحذية لفترة ليست بالقصيرة، وبعدها صبياً بمحطة بنزين، ثم خراطا، ثم عمل ميكانيكي سيارات، وبعدها بائع خضار. ولكي يميز نفسه عن أقرانه حصل على دورة لمدة ثلاث سنوات في التعدين، لينتهي به الحال كمتخصص في التعدين. (أي أن الإنسان ممكن أن يطور من نفسه وان يتعلم شيء بأبسط الموارد ليتميز). ولتميزه تم تعينه في مصنع قطع سيارات، ولكن لم يدم الحال طويلا، حيث إنه في عمر التاسعة عشر خسر أصبعه الصغير ليده اليسرى في حادث أثناء العمل في المصنع، وعندما ذهب إلى المستشفى سأل الطبيب والدته عن التأمين الصحي لكي يعالجه، ولكن للأسف لم يكن صاحب المصنع يؤمن على العمال، وبالتالي لم يكن له الحق في المطالبة بأي تعويض ولا حتى بالعلاج! وكان هذا الحادث -المأساوي بالنسبة للكثير مننا- بداية خير لبطلنا، لأنه بسبب هذه الحادثة وبسبب ظلم رئيس المصنع له، انخرط في اتحاد نقابات العمال، ليدافع عن حقوقه وحقوق زملائه. وفي عام 1980م حدث إضراب للمصانع في أطراف "ساو باولو" بالبرازيل، فترأس هذا الشاب تجمع خطابي لنقابات العمال الصناعيين، وكانت خطاباته مشجعة ضد الحكومة فأدى ذلك إلى احتجازه لمدة ثلاثين يوما. وفي عام 1981م حكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن لمدة 3 سنوات ونصف بتهمة التحريض والشغب، ولكن أطلق سراحه في عام 1982م.
أي أن النجاح في الاغلب لا يأتي الا بعد محاولات عديدة مع الاصرار والإيمان بالفوز
أنشأ فور خروجه من السجن حزب وتم انتخابه رئيسا للحزب لنشاطه الواضح، ولأن حلمه -الذي زرع في عقله منذ الصغر- هو أن يغير حالة الفقر التي يعيشها معظم أبناء وطنه، رشح نفسه للرئاسة، وخسر ثلاث مرات، لكنه لم ييأس بدأ يطور من نفسه ومن اسلوبه، إلى أن نجح في الانتخابات الرئاسية عام 2003م، وتولى الرئاسة دورتين متتاليتين حتى سنه 2011م. (أي أن النجاح في الاغلب لا يأتي الا بعد محاولات عديدة مع الاصرار والإيمان بالفوز). ولتطوير حياة رفاقه السابقين- قبل أن يصبح رئيساً للبرازيل- من جامعي القمامة، قام بتسليم قرض ائتماني خلال ولايته الأولى بقيمة112.1 مليون دولار منحها البنك الوطني للتنمية الاقتصادية لأكبر جمعية تعاونية تضم جامعي القمامة وتدويرها في "ساو باولو". وكان قرار صائبا فعمل تغير في حياة كثير من الفقراء.
لقد تعامل "لولا دا سيلفا" أثناء فترة رئاسته مع شعبه بشفافية تامة في كل ما يخص البرازيل وخططها ومواردها، فكسب ثقتهم، وارتقى بهم نحو مصاف الدول المتقدمة، وحارب الفساد بشراسة وبحزم، لذلك نجح في تسديد الديون المتبقية على البرازيل في سجلات صندوق النقد الدولي قبل عامين من الموعد المحدد لتسديدها، وبذل قصارى جهده لتحرير البرازيل من وطأة الديون الخارجية، حتى حررها تماما من كل ديونها. وأطلق في ولايته الثانية برامج "تسريع النمو" متحديا العقبات الروتينية، التي كانت تقف بوجه المشاريع الاستثمارية، وسعى إلى الموائمة بين القطاعين العام والخاص فدمجهما في سياسة الشراكة، واستطاع أن ينتشل أكثر من عشرين مليون برازيلي من مخالب البطالة، وكان من ألد أعداء الفقر، فخاض ضده أشرس معارك مكافحة الجوع، حتى صار رمزا عالميا لفقراء العالم، وتصاعدت شعبيته في الداخل والخارج، وحجز له مكانة مرموقة بين زعماء العالم، فكان من ضمن قائمة الخمسين الأكثر نفوذا في العالم، و بالرغم من أن "لولا" كان المتصرف الأول بموارد البرازيل وثرواتها، وكان هو المؤتمن عليها لمدة ثمان سنوات، لكنه بعد مغادرته القصر الرئاسي بأشهر راح يبحث عن من يسلفه، ليرمم منزله الريفي!!!!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
راىعة يا دكتورة غادة
سرد للقصة وتحليل للمواقف
نتمني ان نفكر في علمنا الذي تعلمناه ،كم من الناس انتفع به