رجعنا للبيت كانت أمي تجلس في المطبخ مع خالاتي بانتظارنا , كان موضوع اختيار العيادة المناسبة لي الحدث الأبرز في العائلة

فالكل ينتظر هل سأبقى في الأردن أم لا , خالاتي كانوا من أكبر المشجعين لبقائي , فعليا الأغلبية من الأقارب كانوا متحمسين معي للتجربة , لا أدري لماذا هذا الحماس الجماعي , ربما لأنني طالما تمنيت هذه التجربة , واحيانا التجارب الجديدة للبعض قد تصبح قصة مثيرة وجديدة لكسر روتين حياة البعض .


دخل أبي وهو يخبر أمي أن المكان جميل مقارنة بالمنطقة و كان الجميع ينتظر رأينا عنها التي قد تكون غريبة وجديدة على البعض بالرغم أنهم من سكان الأردن .

كنت خائفة أن أقع في دوامة تعدد الأراء والنصائح , فكان والدي دائما يقول الي ( ليس الإجبار هة الصعب إنما الإقناع والزن ) . شيء ما بداخلي لم يكن يود سماع أي رفض للمكان الجديد !


( أريج حتجبلنا كل يوم لبنة ) رددت خالتي وهي تضحك تلك الجملة محاولة منها لبدأ الحوار . اعقبتها خالتي الثانية : معقول تقبلي العرض في ضليل شكلك مبسوطة !!؟؟


أمي: لا ما راح نقبل المنطقة بعيدة شو راح يوديها هناك .


لم أتفاجأ من كلام أمي فدوماً كانت تقلق من أي مكان بعيد !! لماذا تقلق الأماكن البعيدة الأهل ؟! هل يعلمون أننا تعرضنا للإساءة من أماكن قد لا تبعد متراً واحد من بيوتنا !!

لم أعلق على كلام والدتي , لم أكن أفضل أن اعترض على كلامها أمام خالاتي لأننا سندخل في جدال مزعج , جلس أبي وبدأ في مدح المكان كأنه من الخيال , بدا الاستغراب على وجوه خالاتي ,فكيف لضليل تلك المنطقة النائية أن تحوي هكذا عيادة مرتبة وكاملة !؟


أمي لم تبدي أي رأي واضح لم تكن سعيدة بضليل ما سبب لي توتر ,كانت لديها إصرار أن نكمل البحث في العاصمة وأنه لايزال لدينا وقت .أحدى خالاتي وقفت في صف أمي فهي كانت ترى أ "ضليل" لا تليق بي ! لم أستوعب كيف لا تليق بي ؟؟! في المقابل خالتي الأخرى التي كانت متشجعة لخوض هذه المغامرة فهي كانت تتفهم دوماً حبي لتجربة ما هو مثير وجديد وكنت أرى هذا في لمعة عينيها الضاحكة وهي تنظر لي وكأنا تقول لي : هذا هو مكانك .


فتح باب بيتنا لتظهر جدتي , بدأت بالتصفيق وغناء بعض الأزاهيج فرحة بي ,كانت جدتي كلما رأتني قادمة تبدأبترديد أغاني تراثية ممزوجة بإسمي , كان قلبي يرفرف عندما أسمع هذه الأزاهيج وأشعر بالفخر أنها تخصني بها دوما , ( الدكتورة خلص حضل عنا وتروح وتيجي على العيادة ) . جدتي من أكثر الأشخاص سعادة ببقائي في الأردن , حيث أن والدتي تركتني عند جدي وجدتي عندما كان عمري 3 شهور واتجهوا للعمل في الإمارات فعشت عندهم قرابة العام فكنت دوما الحفيدة المميزة لديهم , لم تكن جدتي تكترث ماذا سأختار على قدر رغبتها في بقائي في الأردن واسترجع معها أيام الدلال في بيتها , فقد كانت تغريني طوال الوقت بسهرات الشتاء حول الصوبة (المدفاة) وشوي الكستناء والبطاطا الحلوة وخاصة أنها بل الجميع يعلم بمدى حبي لفصل الشتاء الحقيقي الذي لم أشهده طوال حياتي .


اجتمعنا على الغداء وكان هناك شيء سحري يحوم في المكان , فالحديث الدائر بين الناس يشعرك أن (ضليل )ستكون هي الاختيار النهائي بالرغم من استنكار البعض للمكان لكن هناك ما يشد الجميع لها ولم يأخذ أي مكان هذا القدر من النقاش من ضمن الاماكن التي كنت اتقدم بالعمل فيها ,


بعد الغداء استلقيت على السرير , كان الهواء الحار يدفع الستارة كحركة الزهيق والزفير وكأنه يتزامن مع حركة أنفاسي , كنت بحاجة لهذا الهدوء .


مساءاً كان الجميع يجتمع في بيت الجد ,وبالطبع كان الحوار الدائر عن عيادة ضليل وعن قبولي للعرض ! انقسم الجميع لمشجع وآخر رافض للفكرة لأن المكان (بعيد) والمواصلات منهكة , وبين من لا يعرف أين تقع ضليل أصلا , وبين من أخذ بالتندر علي وأنني سأعود كل يوم حاملة كمية من الألبان والأجبان ( لا أكن أفهم ما بال الجميع بموضوع الألبان !؟) . كانت أغلب النكات ثقيلة الدم (خاصة من الرجال) وكنت أتظاهر أنها تضحكني !

كان هناك فريق متشجع جدا أن أقبل العمل هناك خاصة أعمامي لربما كانوا يعلمون شخصيتي جيداً ورغبتي في خوض ما هو جديد ! والبعض الآخر رأى أن هذه التجرية ستكون ثرية مليئة بالقصص الطريفة والغريبة التي سأعود بها يومياً لأرويها للجميع (يعرفني الجميع كيف أدقق في تفاصيل طريفة قد لا يراها البقية) ,لوهلة شعرت أنني سأكون راوي قصص خلال السنة القادمة ,لاأنكر أنني تحمست أيضا . فلو عملت في العاصمة فماذا سأعود لأروي من هناك ؟ لا شيء !


محافظة ضليل كانت لفترة طويلة تحوي مجموعة من المزارع لتربية المواشي ومصنع كبير لإنتاج الألبان والأجبان




مر يومان وليلة الجمعة جاء اتصال لوالدي من طبيب العائلة الذي دلنا على الوظيفة ليطمئن والدي أ نه قد يكون هناك مستقبلاً مواصلات خاصة للاطباء اللذين يقيمون بعيداً عن ضليل ,فرح والدي وشعر أنها قد تكون بشرى جيدة لقبول المكان . (جربي أكم أسبوع وشوفي المكان وإذا ما عجبك بنشوف مكان ثاني ما تضيعي وقتك ) هكذا أكمل والدي كلامه تعقيباً على المكالمة .


6 اغسطس يوم السبت 2005 ,أول يوم لي في دوام رسمي . لا أذكر كيف كانت أحاسيسي في ذلك اليوم ؟ أعتقد لم يكن لدي أي أحاسيس ,

تم إعلامي أن دوماي سيكون من 8 صباحا إلى 4 مساءاً , لم أكن قد تدربت على حساب الوقت الذي احتاجه من الأنطلاق من البيت نحو العيادة ! حسناً لا بأس لو تأخرت في أول يوم .


عندما استيقظت وجدت الجميع مستيقظ معي مما زاد توتري , دائما أكون في مزاج سيء عندما استيقظ بعد الجميع لذلك تعودت دوما أن أحاول الاستيقاظ قبل الجميع بساعة لأكون بمفردي بهدوء خلالها , فهذا يشعرني بتحسن باقي اليوم . كان الجو حاراً وغير مشجع للخروج ,من المضحك ان يذكر أحد ما عاش في الخليج أنه لا يطيق الجو الحار ! لكن ما لا يعلمه الجميع أننا فعلاً لا نحتمل الأجواء الصيفية لأننا تعودنا ان كل شيء حولنا (مكيفاً ) من السيارة إلى مكان العمل .


كان علي أولاً أن أمشي مسافة جيدة لكي أصل لنقطة ركوب الباص الأولى , عندما خرجت كان طلاب وطالبات المدارس في الحي قد خرجوا أيضاً ,كنت استغرب دوماً كيف يتعود الجميع هنا على ( المشي) !! ثقافة المشي الطويل لدينا في الخليج معدومة لسوء الطقس في أغلب أيام السنة ! يبدو أنني سأمشي كثيراً في السنوات القادمة !!


وصلت عند نقطة انتظار الباص ,كان خلفي محل صغير لبيع الخضراوات وكان صاحب المحل يقوم برشها بالماء , رائحة الخضار والفواكهة الصيفية الطازجة كانت كفيلة بإنعاشي !

رأيت بنات خالاتي متوجهات للمدارس من بعيد ولوحوا لي , حسناً هذه الحياة التي أحتاجها ( التفاعل الحقيقي مع الناس في الشارع) استفقد هذه التفاصيل في الإمارات حيث أحياناً ركوب السيارة يحرمك من متعة هذه التفاصيل .


جاء الباص وركبت واتجهنا نحو مجمع الباصات المركزي . طوال الوقت وأنا في الباص كنت أسأل نفسي (متى قررت أن اختار ضليل !!) لماذا كل شيء ينجرف لوحده !؟


نزلت لأمشي بسرعة نحو منطقة الركوب لضليل ليستقبلني مشهد صادم !! طابور طويل من الناس ولا يوجدحتى باص واحد !!

التفت حولي لأتاكد انني في المكان الصحيح وسألت أحدهم ليؤكد لي أنني في المكان الصحيح لكن هناك رحلات قليلة لضليل اليوم !

لم يكن المشهد هكذا عندما كنت مع والدي ووقت الانتظار لم يكن نسبياً طويلاً ,كانت ًهناك أمرأة تقف بجانبي كانت تتذمر تارة وتارة أخرى توجه كلامها للناس أنه يجب أن يكون هناك حلاً لقلة الباصات .


وجهت كلامي لها : ليش هو هيك دايماً.


المرأة : دايماً شو ؟

أنا : أنو ما في باصات لضليل.

المرأة : أول الأسبوع بالذات الكل بكون عنده دوام .

انا : وكل هدول رايحين ضليل ؟ شو في هناك ؟

المرأة : شغل ومصانع ومعسكرات ,طيب إنت لشو رايحة .

أنا : شغل كمان .

المرأة : وين في المصانع ؟

أنا : لأ في عيادة .

المرأة : أه المركز الصحي الحكومي .

أنا : لأ الخاص .

المرأه : أها , بنت خالتي بتشتغل في المركز الصحي الحكومي بتعرفيها إسمها نجوى .

أنا : لأ ما بعرفها أنا في المركز الخاص مو الحكومي وأصلا اليوم أول يوم .

لولهة لم أدري كيف وصل النقاش لهذا الحد مع هذه السيدة .

وأكملت كلامها : إنت ممرضة يعني ؟ أنا : لأ طبيبة أسنان

لمعت عينها : والله , طيب متزوجة ؟


السؤال كان كفيلاً أن يجعل رأسي يلف نحوها بسرعة لم استطع فتح عيني بالكامل بينما العرق يتصبب من جبيني إلى داخل عيني , بالعادة هذا السؤال لم يكن يزعجني جداً فلقد تعودت عليه لكن لم يكن في المكان المناسب !

أنا : لأ

المرأة : طيب أخو زوجي بده عروس تروحي ؟

أنا: أروح وين ؟

المرأة : السعوية هو هناك شغال !

أنا : لأ شكراً

جاء الباص وشعرت أنه جاء في يالوقت االمناسب لينقذني من عرض الزواج الغريب .


بمجرد وصول الباص هجم الجميع عليه قبلأن يقف حتى ! كنت مصدومة من المنظر في ثواني كان الأغلبية قد صعدوا وحصلوا على مقاعد بينما كنت لأ أزال أقف مكاني !

تأففت المرأة وقالت : هيك حننتظر كمان نص ساعة للباص التاني .


نصف ساعة !! كنت على وشك البكاء ! لم نتفق على ذلك , لماذا أظلمت الحياة عندما أصلحت وحدي وكل شيء كان لطيفاَ

ً مع والدي !!

اختلطت دموعي مع عرقي ,بلعت ريقي , وحبست أنفاسي , هل أعود أدراجي وألغي فكرة الذهاب للعيادة ! لماذا أنا هنا أصلاً , لماذا كل هذا التعب والبهدلة فلأعود للبيت وأعاود البحث عن عيادة قريبة لبيتي وإن لم أجد سأعود للأمارات وأبقى في البيت .


فجأه هبت نسمة هواء خفيفة على جسدي المتعرق لأشعر ببرودة لطيفة , نظرت حولي , الكل يركض ليلحق شيء ما , كبار في العمر ,نساء فتيات شباب عسكريين مدنيين الكل مرهق في هذا الجو الخانق لكن الكل يريد اللحاق , لماذ أنا حانقة على من ركب الباص ,لماذا أرى أنني الأحق دون الجميع لكي أركب !؟ الكل هنا لديه الإصرار لركوب تلك الرحلات المرهقة من أجل حفنة من النقود ! غريبة؟ هل هذه هي الحياة فعلا ً! وأنا أتذمر بالرغم أنني فعلياَ أقبل بهذه الوظيفة ليس من أجل المال بينما من أجل متعة أنانية أريد خوضها فقط! لأكتسب خبرة كما يخبرني أهلي لأعود لحضنهم مرة أخرى في الإمارات ! كم أنا أنانية !


قطع سرحاني صوت السيدة مرة اخرى لتسألني : شو ؟ تروحي ؟

نظرت نحوها وابتسمت وقلت : لا ما بدي أروح .

يتبع

Areej Toyllywood

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

رائع الحياة المهنية من قرب واسلوب مشوق وفقتي

إقرأ المزيد من تدوينات Areej Toyllywood

تدوينات ذات صلة