"أفلا يتدبرونَ القُرآن أم على قُلوبٍ أقفالها" سورة محمد24


معَ جهلِ الأمَّةِ في العصورِ المُتأخِّرة تراجعَ الاهتمامُ بالقرْءَانِ العظيم ، وانحصرَ هذا الاهتمامُ بالحفظِ وحسنِ التلاوةِ فقط، دونَ تدبُّرِ وفَهمِ مُرادِ الشارعِ ودلالاتِهِ -جلَّ وعَزّ-، ولذلكَ لمْ يحصلُوا على تلكَ الثمرةِ المُلازمةِ لإعمالِ الفكرِ من اتعاظٍ وتبَصُّرٍفي حِكَمِهِ والاهتداءِ بهِ، وَلمْ يَستجيبُوا لأمرِ اللهِ في قولهِ تعالى وتنزَّه: "كتابٌ أنزلناهُ إليكَ مُباركٌ ليدَّبرُوا آياتهِ وليتذكرَ أولوالألباب"؛ فلذلكَ وجدتُ أنَّ أحقَّ ما أكتبُ عنهُ في مَقالي الجديد هوَ تفسيرُ سورةِ الفاتحةِ بشكلٍ مُختصرٍ بحيثُ نكونُ على إلمامٍ ودرايةٍ بتفسيرٍ إجماليٍّ لها.



أعظمُ وأحقُّ مَا نتدبَّرُ في آياتهِ هذه السبع المَثاني؛ فهي الجامعةُ لأسرارِ القُرءَانِ العظيم، وهي فاتِحتُهُ وبدايَتُهُ؛ فلذلكَ سُمِّيَتْ بالفاتحة، وهيَ المَثاني لكونِها تَتَردَّدُ في كُلِّ رَكعةٍ، وهيَ سَبعٌ لعّدَدِ آياتها، وهي أمُّ القُرءَانِ وأعظمُ سُورةٍ فِيهِ كما جاءَ في صحيحِ البُخارِيّ من حديثِ أبي سعيدٍ بنِ المعلى أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم- قالَ: "ألَا أُعَلِّمُكَ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ قَبْلَ أنْ أخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ فَذَهَبَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لِيَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ فَذَكَّرْتُهُ، فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ. هي السَّبْعُ المَثَانِي، والقُرْآنُ العَظِيمُ الذي أُوتِيتُهُ".


فسبحانَ اللهِ نكَرِّرُ استعانَتَنَا بِاللهِ في كُلِّ وقتٍ، وكلِّ صَلاةٍ، وكُلِّ رَكعَةٍ فَنقولُ: "بسم الله الرحمن الرحيم"؛ فالباءُ فِي "بِسم" تفيدُ الاستعانةَ بِاسمِ اللهِ العظيم؛ فأقولُ: أبتدأُ قِراءَتِي مُتبَرِّكًا بِاسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم، ومُستعِينًا بهِ؛ فنبدأُ بحمدِ اللهِ تَعالى، وَهنا الحمدُ بِمعنَى الثناءُ، والثناءُ هو تِكرارُ المَدح، وَلهذا نبدأُ بالمدحِ المُتكرِّرِ للهِ وحده المُستحِقُّ وَحدَهُ للعبادة، وذلكَ الاستحقاقُ دَلَّ عليهِ حرفُ الّلامِ الجارَّةِ في كلمةِ "لله" واللهُ هوَ عَلَمٌ عَلى الرَّبِ المَعبودِ بحقٍّ دُونَ سِواه، وهوَ ذو الرَّحمتَيْنِ: العامةُ وَالخاصةُ؛ فالرحمنُ هوَ اسمٌ من أسماءِ اللهِ تَعالى المُشتقُّ مِن الرَّحمة أي: ذو الرَّحمةِ العامَّة التي يَرحمُ بِها الخَلقُ جَميعًا، حتّى الكافرَ يَنالُ مِن هذهِ الرَّحمة بالرزقِ والعافيةِ، وكذلكَ الحيوانُ والنَّبات.

أمَّا الرحيمُ؛ فهوَ اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ تَعالى، وصفةٌ مِن صِفاتِه مُشتقٌّ مِنَ الرحمةِ أي: ذو الرَّحمةِ التي يَرحمُ بِها عِبادَهُ المُؤمِنِينَ خاصَّة، ودليلُ ذلكَ قولهُ تَعالى: "كان بالمؤمنينَ رَحيما".


ومن تَدَبُّرِ هذهِ الآيةُ: أنَّ اللهَ يُحبُّ الحَمدَ؛ فلذا حَمدَ نَفسَهُ أوَّلًا، ولمّا كانتْ جُملةُ "الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ" جملةً خَبريَّةً بِمعنَى إنشائِي تَضمَّنَ ذلكَ أمرُهُ لِعبادِهِ أنْ يَحمدوهُ أيضًا، ولكن اللهَ لمّا حَمَدَ نَفسَهُ حَمَدَهَا لِمُقتَضىً؛ فقدْ حَمَدَ نَفَسَهُ لِأنَّهُ المُربِّي؛ فقال: "رب العالمين"؛ فهوَ المرَبِّي تربيةً عامةً لعبادِهِ بالنِّعمِ، وتربيةً خاصَّةً لأوليائِهِ بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ فيمَا يتعلَّقُ بِأمُورِ الدِّين؛ فهوَ رَبُّ العَالمينَ: عَالمُ الإنسِ وعالَمُ الجِّنّ وعالمُ المَلائِكة وعالمُ الحيوان والنبات، وهوَ "مَالكِ يومِ الدِّينِ" أيْ: صاحبُ المُلْكِ لَه يَومَ القيامةِ، وصَاحبُ المُلْكِ لهُ يومَ الدِّيْن، ذلكَ اليومِ المَسبوقِ بِالبعثِ المَتبوعِ بالجَزاء، إمَّا إلى الجنةِ، وإمَّا إلى النَّار يوم الحساب.


"إيَّاكَ نعبدُ وإيَّاك نَستعين" لمَّا جعلَ اللهُ أسرارَ القُرءَانِ في الفَاتحةِ؛ فقدْ جعلَ سرَّ الفَاتحةِ في هذهِ الآية؛ فهيَ تُدِلُّ المُؤمنُ على صَرفِ كلِّ أنواعِ العبادةِ للهِ وَحدَهُ، وفيها شِفاءُ القُلوبِ مِن الشِّركِ والرِّياءِ وعبادةِ غيرِ اللهِ، وفي تقدُّمِ ضمير النَّصب المفعولِ به "إيَّاكَ" يفيد الحصر على اختصاص الله بالعبادة وحدَه، وكأنَّنَا نقولُ حينَ نُردِّدُهَا: "ياربُّ، إنّا نَخصُّكَ وَحدَكَ بالعبادةِ، ونستعينُ بكَ وَحدكَ في جميعِ أُمورِنَا؛ فالأمرُ كلّه بيدكَ".

وكأنَّ اللهَ يُعلِّمُنَا أنْ نَدعوهُ بَعدَ الحَمْدِ وَالثناءِ عَليه؛ فذلكَ أرجى للعبادة، ولا ندعو لنا فقط بل لِجميعِ المُسلمينَ؛ ففي قولهِ تعالى:"إياك نعبدُ" النونُ تُفيدُ ضِمنيًا صيغةَ الجمع؛ فإننا نسألُ اللهَ الاستعانةَ، ثمَّ نسألهُ الهِداية في قوله: "اهدنا الصراطَ المُستقيمَ"؛ فالهدايةُ أربعُ أنواعٍ:


  • هدايةُ دِلالةِ إرشاد: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- يَدعو ويرشدُ.
  • وهدايةُ التثبيتِ في أصلِ الدِّينِ والهداية.
  • وهدايةُ الزّيادة في تفاصيل الدِّين.
  • وهداية توفيق وسداد من الله.


فنقولُ: يَا ربِّ اهدنا الطريقَ المُستقيمَ ألَا وَهو الإسلام؛ فهوَ أعظمُ نِعمةٍ عَلى الإطلاقِ، وهوَ المُوصلُ إلى رِضوانكَ، وَيدخلُنا جَنّتك، وَوفقنا وَثبّتْنا وَزدْنا في تفاصيلهِ، واسلكْنا طريقَ الذينَ أنعمتَ عليهم غير المغضوبِ عليهم ولا الضآلّين؛ فالذين أنعمتَ عليهم هم النبيون والصدّيقون والشهداءَ والصالحين، وفسرتها آيةٌ من سُورةِ النساء بقوله تعالى:"ومن يطعِ اللَه والرسولَ فأولئكَ مِن الذينَ أنعمَ اللُه عليهم مِن النبيّينَ والصِّدِّيقيْنَ والشهداء والصَّالحينَ وحسُنَ أولئكَ رفيقا"

.والضآلّينَ: همُ الذيْنَ لمْ يَعرفوا الحَقَّ وَلمْ يَتبعوه، والنصارى ومن سَلَكَ طريقهم.


فالحمدُ للهِ الذي هَدانا ودَلّنا للطريقِ القَويم، ووفقنا بالصَّلاة، وثبتنا عليها، وزادنا في آدائها بأكملِ وجهٍ وأحسنِ صورة؛ فمن أنوارِ القلوب تدبُّرِ القُرآن.



مرجع الأفكار: كتاب أيسرُ التفاسير لكلامِ العليّ الكبير لأبي بكرٍ جابر الجزائري – الواعظ بالمسجد النبوِيّ الشريف.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

사라 نعم صحيح ولهذا تطرقت إلى

كتابة مقال على مختصر تفسيرها
الإجمالي فقط فتفسيرها يحتاج إلى أكثر
من هذا المقال بكثير فهي جامعة
لأسرار القرءان كله .
أهلًا بك .

إقرأ المزيد من تدوينات آلاء الظريف

تدوينات ذات صلة