التكثيف الدلالي : اختزان الألفاظ للدلالات ،وإيجاز المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة ؛لتقدم تصورا كاملا للمعنى المراد .

التكثيف الدلالي في قوله تعالى :{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ[ سورة البقرة : 266]

ذُكِرت الآية في سياقٍ ضرب اللهُ فيه مثلاً لمقابلة مثلِ النفقة الذي جاءت به الآية السابقة لمرضاة الله والتصديق ؛ وهو نفقة الرياء، ووجه الشبه هو حصول الخيبة واليأس في وقت تمام الرجاء وإشراف الإنتاج ، فهي مقابل قوله تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ سورة البقرة :265] . وقد وصف الجنة بأعظم صفات الجنات وأحوالها ، ثم وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى جنته ؛" فإننا أمام رجل محاط بثلاثة ظروف ، الظرف الأول : هي الجنة التي فيها كل الخير . والظرف الثاني: هو الكبر والضعف والعجز عن العمل . والظرف الثالث: هو الذرية الضعفاء. فيطيح بهذه الجنة إعصار فيه نار فتحترق ، فأي حسرة يكون فيها الرجل؟! إنها حسرة شديدة . كذلك تكون حسرة من يفعل الخير رياء الناس"

ووصف ذريته بأنهم ( ضعفاء) لا يقدرون على الكسب والاتيان بالرزق ، و ترك التعبير بصغار مع مقابلة الكبر لأنه أنسب " [1] فهو ذو عيال وبحاجة إلى نفعهم ، والضعفاء ـ أي صغار إذ الضعيف في لسان العرب هو القاصر، ويطلق الضعيف على الفقير أيضاً، فقال تعالى: { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً } [ سورة البقرة: 282]. [2] فأولاده صغار ضعاف لا يقدرون على الكسب والعمل .

وفي إسناد الكبر إلى الفعل أصاب دلالة على حالة شيخوخة ، وضعف، وتمكن الهرم منه فكل آماله معلقة بعطاء هذه الجنة ، وفي لسان العرب " وأصابه: رآهُ صواباً. واْلعربُ تقُولُ: اسْتصْوبْتُ رأْيك . وأصابه بِكذا: فجعه بِهِ . وأصابهم الدهرُ بِنُفُوسِهِمْ وأموالهم. جاحهُم فِيها ففجعهم "[3]. وفي دلالة أصاب إشارة إلى الخير تارة وإلى الشر تارة أخرى ؛ فقد ورت في سياق الآيات السابقة :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [سورة البقرة 264] للدلالة على الإصابة بالشر ، وكما في قوله تعالى :{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة 156 ] . وللدلالة على الإصابة في الخير في قوله تعالى :{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة البقرة : 265 ]

وفي الآية قيمة تكثيفية دلالية تتمثل في تنكير لفظ الجنة لتأكيد اتساع الحجم هذه الجنة ودلالة على كبرها .وضاعف من جمال تلك الجنة ببيان نوع ثمارها وشجرها ليكون الأسف عليها أشد حين احتراقها ، ثم كثّف من قيمة هذه الجنة بقوله " تجري من تحتها الأنهار" باستخدام الفعل المضارع لدلالة على ديمومة خصوبتها وخضارها ، و كثّف دلالة خيراتها بقوله :"له فيها من كل الثمرات" زيادة على النخيل والأعناب فينبت فيها جميع الثمار ومن كل وزج بهيج ، وبعد تأكد الفكرة وقيمة تلك الجنة وبيان محاسنها وخيراتها ، انتقل إلى بيان ما حلّ بهذا الخير الوفير ، والجنة الوارفة من هلاك بإصابة صاحبها بالكبر و الضعف و العجز عن رعايتها والعناية بها وذريته ضعفاء لا يقدرون على ذلك . ثم إصابة هذه الجنة بـِ إعصار ، ولأن الإعصار مهما بلغ تأثيره فقد يترك من خلفه بعض ما يستفاد منه أملا في إحياء هذه الجنة من جديد ، جاء قوله " فيه نار فاحترقت " لتأكيد هلاك وفناء هذه الجنة فجعلها غاية في الحسرة والخسارة والحرقة في نفس صاحبها ، وبدأت الآية باستفهام يراد به الإنكار والتحذير بقوله :" أيود أحدكم" فما من أحد يود تلك النهاية المليئة بالخسارة واليأس .

كذلك يبين الله الآيات لعلكم تتفكرون .



[1] . الالوسي (ت 1270 هـ) ، تفسير روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، تحقيق : السيد محمد سيد ،دار الحديث ، القاهرة ، ج2 ، ص 50-53


[2] . ابن عاشور (ت 1393 هـ) ، التحرير والتنوير ، دار سحنون ، تونس ، مجلد 3 ، ص 253- 260


[3] . ابن منظور ، لسان العرب ، ج1 ، ص 535

زينب موسى

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات زينب موسى

تدوينات ذات صلة