"ولأن المشاعر قد تختبئ تحت أديم الملامح، فليس هناك ترمومتر للمشاعر إلا الذات وأقرب الأقربين المحبين بإخلاص إن وجدوا"
خلق الإنسان ليعيش مع الآخر سواء كان هذا الآخر فردا أو أسرة أو مجتمعا قريبا أو بعيدا. فالإنسان خلق اجتماعيا حتي علي مستوي البيولوجيا. فالأجهزة بنفس الجسم تتعاون وتتكامل من أجل المصلحة العليا للجسم. والأعضاء داخل كل جهاز تتعاون سويا وكذلك الأنسجة بداخل العضو ثم الخلايا بداخل الأنسجة ثم المركبات والجزيئات داخل الخلية الواحدة أيضا تتعاون وتكامل. بل أن الجينات علي كروموسومات الخلية الواحدة سواء بنفس الكروموسوم أو الكروموسومات المتجاورة تتعاون بدقة بالغة وحكيمة وحاكمة.
ففي معظم الحالات نجد أن تخليق بروتين واحد قد يحتاج إلي أكثر من جين سواء علي نفس الكروموسوم أو كروموسوم أو أكثر مجاور. وهذا التعاون والتكامل يحتاج بالطبع إلي سيمفونية من الهدوء وهو ما نسميه في علم البيولوجيا بحالة التوازن الخلوي أو Homeostasis وهي الحالة الفسيولوجية الطبيعية بدون أي خلل أو مرض سواء حاد أو مزمن. ولذلك فإن أي خلل Dysfunction في هذا النظام يؤدي بالطبع إلي حالة من الفوضى البيولوجية التي بدورها تؤدي إلي مرض بنفس النسيج أو العضو والانسجة الأخرى المتعاونة معه. والخلل قد يكون نفسيا أو عضويا وحدوث أحدهما سوف يؤدي إلي الآخر.
ومن أشهر البروتينات التي تخلق من أكثر من جين هي البروتينات المناعية المعروفة باسم الأجسام المضادة وكذلك المستقبلات علي الخلايا المناعية المتخصصة والمسماة بالخلايا الليمفاوية . ولأن هذه الخلايا تتعامل مع الأجسام الغريبة بدقة متناهية فأن المستقبلات علي سطحها تتعرف علي الأجسام الغريبة بما يشبه نظرية "الضبة والمفتاح" .ولكي يتم ذلك لا بد من كل خلية ليمفاوية، وهي ثلاث انواع ، أن تطرح علي سطحها مستقبل (مفتاح) خاص بها هي دون الأخرى .ولأن ذلك يحتاج تباديل وتوافيق مهولة، فإن كل مفتاح يتم تصنيعه من اكثر من 5-8 جنات سواء علي نفس الكروموسوم وكروموسومات أخري . وبسبب هذه الخاصية، تسطيع الخلايا الليمفاوية ان تتعرف علي جميع انواع الأجسام المضادة من كل انواع الميكروبات .ويقاس علي ذلك تصنيع عدد من البروتينات المهمة للنمو والتواصل والسعادة والقلق وغيرها، مما يؤكد علي أصولية بيولوجية التعاون والتكامل والتهور وصنع القرار. وبالطبع ، فإن الهدف الرئيسي وراء صناعة وتنوع هذه المفاتيح المناعية للخلايا الليمفاوية هو التعبير عن الغضب (راعدها ( عندما تتعرف علي جسم غريب قبل أن تبرق وتقاتل الجسم الغريب وتتخلص منه. فاذا هو رعد وبرق الخلايا المناعية فيما بينها من ناحية وبين الجسم الغريب من ناحية أخري.
والغضب كالرعد والتعبير عن الغضب كالبرق. فعندما يثور الرعد ويبرق البرق تهتز النفس وتخرج كل ما في جوفها من الشيء وضده، ما بين خوف وقوة وحكمة وجنون. وعندما يهزنا الرعد ويبهرنا البرق، نتساءل ألف سؤال وسؤال، وتستعصي الإجابة. هل يوجد بداخلنا شخص آخر، أم هو شخص واحد بذات الفكر وذات المنطق والأهواء. أم أن النفس انسيابية تتمدد وتنكمش كالماء في الأواني المستطرقة كالماء، أم هلامية تتمدد في الفضاء كالهواء.
وعندما نخلوا لأنفسنا تنساب منا أهوائنا وطموحاتنا ورغباتنا وتمنياتنا فنتعرى أمام أنفسنا، فنصبح تارة كملاك طائر في سماء الروحانيات فتشعر بكل الناس. وتارة كزخات المطر تغوص في لجة بسابع أرض لا يشعر بها أحد هنا أو هناك. وتارة كملك متوج بجاه المال والسلطان وإن لم يمتلك إلا الثري، وتارة فقيرا يتسول رضاء النفس رغم الغني.
وهكذا الإنسان عندما يخلوا إلي نفسه، لا يعرف من يكون، ومن هو، وماذا يريد، ومع من، وضد من. شخص يترنح بين وجوه تلاحقه، وجه كان ينام بداخله فاستيقظ، ووجه كان يقظا فيه فنام، ووجه تائه بين هذا وذاك. وفي النهاية، يبقي الإنسان عاصفة من الأفكار تهب أحيانا براعدها ، وتهدأ أحيانا بنسائم هوائها، وتبرق أحيانا بجمالها. ويبقي الإنسان لغزا لا يفهمه أحد حتي نفسه، إلا الله الذي هو من خلق النفس وسواها فألهمها فجورها وتقواها.
ولذلك تبقي العلاقة بين الذات والآخر إما علاقة تكافلية بين الطرفين أو تطفلية لأي من الطرفين علي الآخر. ولكن طبيعة الناس والأشياء بنيت علي نظرية الأخذ والعطاء ولكن كل في حدود ونسبة تماما كما في قوانين البيولوجيا في استقبالنا وعطائنا لكرات الدم الحمراء. كذلك الأنفس ، مستقبل ومعطي للأفعال والمشاعر. فمنا من مشاعره علي المشاع يمنحها لكل الناس بل تفكير ولا شروط، وتلك هي النفوس شديدة الطيبة والحنو. ومنا من مشاعره مقيدة في عطاءه فلا يمنح منها إلا القليل ولمن يمنحه وهذا هو بخيل المشاعر. وما بين هذا وذاك أنواع كثيرة من الأنفس في مقدار وحدود العطاء. وكلنا نستطيع تصنيف أنفسنا علي هذا النحو في كم ونوع العطاء. وقد تكون هناك علاقة طردية بين قدرة النفس علي عطاء المشاعر وقدرتها علي تلقيها. فكلما كان العطاء كبيرا كان توقع الاستقبال متسعا.
ولكن وكما في طبيعة الأشياء، قد تشذ القاعدة. وهنا تتوقع النفس العطاء بل حدود وعليه تتوقع أن تستقبل من أشخاص معينة حولها كم ونوع هائل من المشاعر ولو كانت كلا من النفس المانحة والمتلقية في حالة غضب عارم. وتلك هي الأنانية الحقة التي تخوض فيها النفس وتطالب بها دون أن تدري. وهنا تصدق النفس بحقها في الغضب كما تشاء مع توقعها برد فعل هادئ بل وملطف من النفس المستقبلة لهذا الغضب. وقد يفسر العشم وحقوق الحب وحقوق الصداقة وحقوق الأخوة حدوث هذه الحالة المتفردة والتي قد نسميها بأنانية العطاء السلبي شريطة الاستقبال الإيجابي. ولأن هذه الحالة ضد طبيعة الأشياء فقلما أن تحدث بين معطي ومستقبل للمشاعر إلا إذا كانت الأنفس قد عرفت بعضها البعض وتزاوجت وتآلفت.
وعلي النقيض من ذلك هناك من الأنفس التي لا تعطي إلا كرها وحقدا علي طول الخط ولكنها تتوقع أن تستقبل كل المشاعر الحلوة الطيبة أيضاً طوال الوقت. ولأن هذه الحالة أيضا ضد طبيعة الأشياء، فهي تلتصق بالنفوس المريضة التي تملكتها الأنانية المضادة التي تؤمن بحقها في منح حقن السلبيات وتلقي حبوب الحب.
العلاقة التبادلية للمشاعر بين الأنفس مع بساطتها، إلا أنها الأكثر تعقيدا لنا في الفهم لأنها لا ترضخ لقوانين البيولوجيا. ولكن قد تنطبق عليها نظرية الأواني المستطرقة. فحسب شكل وحجم الإناء تتشكل المشاعر.
ولأن المشاعر قد تختبئ تحت أديم الملامح، فليس هناك ترمومتر للمشاعر إلا الذات وأقرب الأقربين المحبين بإخلاص إن وجدوا.
مع خالص تحياتي
د. محمد لبيب سالم
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات