سأكتب في اليوم العالمي للّغة العربية الموافق ل١٨كانون الأوّل، عن أجمل ما في الوجود، عن أسمى معانٍ، عن الاختصارات الجميلة والمشاعر النبيلة

وهل يوجد أنقى من حرفين تشابكا فأخرجا ما في القلوب من وِد، فما أطهره إن كان في الله كما قال مصطفى محمود _رحمه الله_:"وأدوم الحب ما كان لله وفي الله وأقصر الحب ما كان لهدف".

العالم مشغول بتحليل الأوضاع الدولية، أمّا أنا فانشغلت بكتابة الحب، حينما تعاهد الحكام على تحطيم بعضهم وسفك دماء شعوبهم، غيّرت البث نحو قضية تحمل جوهر الإنسانية في أعماقها، لقد أبصرت المُتحابين وهم يتبادلون الورود وكلمات الغزل، يتبادلون النظرات والوعود بدل القنابل والصواريخ، وقفت بصمت وعلى إثر موجة الشعور هذه عاهدت الحب فجعلت منه قضيتي.ها أنا أكتب تمجيدًا للّغة الضاد التي تاه عنها أهلها فهجروها، ما أقساها من غُربة أغرقتهم ودمّرتهم، باتت مهمَّشة يخجل الكثيرون من نُطقها حتى لا يُوجِّه إليهم الآخرون التُهم كأن يقولوا أنت مُتخلِّف تتحدث لُغة القُدامى دعك منها، تعلّم لُغات التطوُّر فهي المُنجية من الرجعيّة والاستبداد، هذا القليل مما يُقال وليته انحصر في مجرد الكلام، بل أصبح حقيقة، هذا الجيل ضائع لا يعرف عن هوِّيته شيء، فأينما تكون المادة يكون الانتماء.

اللّغة اليوم كالحب تمامًا يركض الجميع هربًا منه إلى أحضانٍ باردة خاوية لا حياة فيها، مثلا أوّل ما يجذب النظر إلى سيرتك الذاتية هو درجات إتقانك للّغة الإنجليزية أو الفرنسية لا أحد يهمّه مِقدار إتقانك للّغة الأم، على هذا لجأ الآباء لإدخال أطفالهم إلى معاهد خاصة لتدريس اللّغات الأجنبية، أمَّا اللّغة العربية فيتم تكسيرها وتشويه مُفرداتها بألسن يخجل المرء من وصفها بالفصيحة، فأخبرونِي كيف سنُحقِّق المجد؟ كيف سنُحيي الحضارة؟


أمّا الحُب فقضية شائِكة، كلّ من يكتب عنه يدخل زنزانة الأعراف خاصة إن كان الكاتب امرأة لازالت تُعاني من الوأد الذي تطوَّر إلى أشكال أخرى غير دفن الجسد، إذ تجاوزه إلى تحطيم المواهب وردم العقول المُفكِّرة، فالمرأة ناقصة عقل ودين، لا يليق بها أي شيء، هكذا هي المرأة مهمَّشة كاللّغة تمامًا، لا يأتِ أحد إليّ قائلاً: أنتِ من مُناصِرات الحركة النسوية، لا، أنا من المُناضِلات داخل مجتمع مُتعفِّن فكريًا مجتمع يطعن المرأة في شرفها حينما تكتب عن الحب.

أخبروني لماذا نتَّهِم امرأة تُغازل الحرف، امرأة كاللّغة في تفاصيلها، فهل يُمكننا العيش دون لُغة؟ كيف لنا أن نتواصل حينها، لن يفهمنا أحد، فأرجوكم عودوا إلى أحضان لُغتكم تكلّموا بها، افتخروا بنُطقكم لحروفها فهي أصعب لُغة في العالم، ومثلما أقبلتم على بقية الّلغات الأجنبية أقبلوا عليها أيضًا، لا تتركوها كاليتيم دون أم، كالثكلى دون ابن، لا تتركوها كوطن دون شعب، كعقل دون ذاكرة، لا تتركوها فهي الحب والمأوى، أو بالأحرى ارجعوا إليها حتى لا تفطِمكم فتموتوا جوعًا، أنظروا إلى الدول المتطورة التي أخذت على عاتقها تعلّم اللغة العربية، لقد تلبّسهم الفخر عندما أجادوا التحدّث بها.


تورّطت اليوم بالكتابة عن اللغة، فمن أنا حتى أتكلّم بصوتِها، لكنّني غيُّورة عليها، أُريدها أن تكون لُغة التطور والسلام، نعم تعوّدت أن أُصفَع من المجتمع، أي ببساطة من تتكلّم على الحب ستدخل قفص الاتهام، يا ويلها من مقصلة الأعراف، من جهل الجاهلين وعُقد المرضى المتطاوِلين على كل من أطلق العنان لقلمه، حسنًا لم أعد أهتم ما دُمت أكتُب بلغة الضاد، فقط لو نُبصر الكبت الذي حوّل العقول إلى ألغام يحدّها من اليمين السب والشتم ومن اليسار الانتقاد والقذف، فقط لأنّ امرأة حملت القلم ولِمَ لا حتى تُعلّم الناس أنّ الحب منهاج حياة وليس قضية شرف، فكفاكم.


نعم يا جماعة اللغة شرف أُمّتها وعزّتها وتاج جمالها، من مسؤوليتنا الحفاظ عليها، عدم الخجل من الحديث بها، لو نعمل على تطوير الأبحاث بها، نعمل على نشرها، نبذل الجهد لإتقانها كتابة وقراءة فليس هناك أبهى منها وكما قال المستشرق الفرنسي وليم مرسيه: العبارة العربية كالعود، إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تُحَرّك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور.


الحب لغة نستطيع أن نتواصل من خلالها مع بعضنا بسلام، أستغرب أيَّما استغراب من حالنا فنحن بذات الحدود والأوطان لكننا غُرباء نُحارب بعضنا بالجهل والنفاق، لم نعمل حتى على غلق قنوات التفرقة وتعلُّم لغة التسامح والصدق، هل هناك أنقى من مشاعر الاهتمام والاحترام، نعم يا جماعة الحب لُغة واللّغة حُب، كِلاهما رسالة أمان، كِلاهما احتواء كحضن الأم يأوِ جميع الأبناء دونما تفرقة، أو كابتسامة طفل بريء، كشذى وردة جورية، كفرحة مشرّد ببيت، لا أدري كيف أصفهما لذا سأتوقَّف عند هذا السطر لكنِّي لن أتوقف عن كتابة الحب فهو قضيتي ولا عن تعلّم اللّغة العربية فهي النَفَس والملجأ.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ليندة طرودي

تدوينات ذات صلة