لماذا نميل للقيل والقال؟ و لماذا لا نستطيع التوقف؟


كيف بدأت النميمة؟


كما هو معروف عاش أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ في جماعات صغيرة نسبيًا وسط أجواء وبيئات مليئة بالصراعات والمنافسة على الموارد الطبيعية المهمّة للبقاء على قيد الحياة ضدّ المجموعات الصغيرة الأخرى، الأمر الذي أدّى لخلق الحاجة للتعاون مع أعضاء المجموعة نفسها من أجل درء الأعداء، فظهرت الأسئلة المتعلقة بالثقة والأمان والصداقات والتحالفات.


في دراسة نُشرت عام 2004 بعنوان "النميمة من منظور تطوري" يرى عالم النفس في جامعة أكسفورد "روبن دونبار" أنّ تلك المجتمعات بدأت بممارسة "النميمة" أو "الثرثرة" حين ظهرت حاجتها للإجابة على الأسئلة من قبيل "من هو جدير بالثقة؟"، "من هو الغشاش أو الخائن؟"، "كيف يمكن تشكيل الصداقات والتحالفات؟"

بالتالي يمكنك الاستنتاج بأن الجماعات التي كانت على علم بالجماعات الأخرى وأخبارها ومستجداتها كانت الجماعات الأكثر قدرةً على البقاء.



لماذا نمارس النميمة اليوم؟


1. طريقة لضبط السلوك


تعد النميمة هي وسيلة "لتحديد من هو الصديق ومن هو العدو"، ولكن كيف نحدد ذلك؟

يحدث هذا في كثير من الأحيان من خلال الحكم الأخلاقي، يعتقد الفيلسوف جوليان باجيني أن النميمة تخدم غرضًا أخلاقيًا، وتساعدنا على الانخراط في "الحكم على ما يفعله الناس وما إذا كان صحيحًا أم خاطئًا، جيدًا أم سيئًا".


وجدت تجربة أُجريت عام 2012 في جامعة كاليفورنيا في بيركلي أن الأشخاص الذين شاهدوا سلوكًا غير أخلاقي شعروا بتحسن بمجرد أن تحدثوا عنه لأشخاص آخرين.

إن مساعدتهم في نشر الأخبار أثارت احتمال معاقبة الشخص المعني، في هذا المعنى تخدم النميمة غرض إبقائنا جميعًا على نفس الخط الأخلاقي.



2. الحفاظ على سلامتنا


بالنسبة للبشر الأوائل في السافانا كان الحفاظ على سلامتنا يعني معرفة أكبر قدر ممكن عن محيطنا ووضعنا، ومشاركة هذه المعلومات بحرية وبسرعة قدر الإمكان.

وفقًا لهذه النظرية ساعدنا القيل والقال على تعلم كل شيء مهم لبقائنا على قيد الحياة، ابتداء من "العائلة X اصطادت سمكة" إلى "هناك عملاق خلفك".



3. بناء الروابط الاجتماعية


بعض المنظّرين يميلون لتسمية الثرثرة باسم "الاستمالة الاجتماعية"، ويجادلون بأنها تطورت على غرار أنشطة الترابط بين الرئيسيات، مثل تمشيط شعر بعضهم البعض وانتزاع الحشرات.


في عالم الرئيسيات يتم الحفاظ على الصداقات من خلال ممارسة تفلية البراغيث والأوساخ من فرو الأعضاء الآخرين في المجموعة، يُعرف هذا باسم الاستمالة الاجتماعية. على الرغم من أن الاستمالة هنا تخدم غرضًا صحيًا وهو تنظيف الفراء والجلد من الحشرات والأوساخ إلا أنها تقوي الصداقات أيضًا.


ينخرط البشر أيضًا في الاستمالة الاجتماعية من خلال تمشيط شعر بعضهم البعض، وتجهيز ملابس بعضهم البعض، ولكن وفقًا لدانبار وجدنا طريقة أسهل وأكثر فاعلية لبناء العلاقات والحفاظ عليها وهي الثرثرة.

بعبارة أخرى تخدم الثرثرة نفس غرض الاستمالة المتبادلة للشمبانزي من بناء الشبكات الاجتماعية.


فالنميمة مع شخص ما هي طريقة لتقريبهم داخل هذه المجموعة، والتحقق من أنهم يشاركونك وجهات نظرك، ويشاركونك في المواقف والأحكام .

لذلك فإن الأشخاص الذين تتحدث معهم أكثر من غيرهم هم الأشخاص الأقرب إليك.



إن فرضية القيل والقال مثل الاستمالة هي واحدة من عدة نظريات لتطور اللغة تؤكد على الجوانب الاجتماعية بدلاً من الجوانب المعرفية للّغة.


على سبيل المثال اقترح عالم الأنثروبولوجيا دين فالك أن اللغة تطورت من أصوات الأمهات التي تهدئ صغارها، ويقترح عالم الآثار "ستيفن ميثن" أن اللغة تطورت من الأصوات الشبيهة بالموسيقى التي استخدمها البشر لتنسيق سلوكيات المجموعة.


لكن تحتوي فرضية القيل والقال مثل الاستمالة على فجوة كبيرة، وهي مرحلة الانتقال من الاستمالة الجسدية إلى التفاعل الصوتي.


4. تحديد التسلسلات الهرمية الاجتماعية


يأخذ البشر في الاعتبار حقيقة أن القيل والقال يمكن أن تكون ضارة في كثير من الأحيان، فأنت لا تقوم بنشر الشائعات عن صديقك المقرب لتقريبك إليه، أليس كذلك؟


فأنت تحاول الوصول إلى قمة الشجرة عن طريق إنزال شخص آخر وبهذه الطريقة قد تكون وظيفتها الحقيقية هي مساعدة البشر على التنافس على رأس التسلسل الهرمي الاجتماعي، وفي هذه الحالة تكون النميمة شكل خطير من أشكال التنمر ويمكن أن تكون ضارة للغاية.


5. جزء من دافعنا لرواية القصص


نحن نحب النميمة لأنها ترتبط بسحر الإنسان الفطري لسرد القصص.


تجبرنا اللغة على تنظيم أفكارنا في جمل، والتي هي في الأساس في رواية حكايات، كل جملة لها موضوع "من؟ أو ماذا؟"، ولكن في الغالب تحتوي كل جملة أيضًا على فعل "ما فعله الفاعل أو ما سيفعله أو ما يفعله الآن."


حتى المحاضرات العلمية تأخذ شكل القيل والقال، فنحن نتحدث عن الكواكب التي تدور حول النجوم وعن أشعة جاما التي تصطدم بنوى الذرة كما لو كانت الكواكب وأشعة جاما كائنات حية لها عقول خاصة بها. وليس لدينا طريقة أخرى للتحدث عن هذه الأشياء، وهذا أحد أسباب لجوء العلماء في كثير من الأحيان إلى شرح أفكارهم عن طريق المعادلات الرياضية.



لماذا نهتم بالثرثرة حول المشاهير؟


لماذا يهتم الأفراد بحياة المشاهير ويتناقلون أخبارهم ويمارسون النميمة حول حياتهم؟


ترى عالمة النفس البلجيكية "شارلوت دي باكر" أنّ اهتمامنا بالمشاهير وحياتهم ينمو من عطشنا لتعلّم استراتيجيات الحياة وأساليب المعيشة، فالأفراد ينظرون للمشاهير بنفس الطريقة التي كان أسلافنا ينظرون إلى النماذج التي يُحتذى بها داخل الجماعات، والتي كانت تُعتبر الأقوى والأكثر قدرة على البقاء والنجاة، والأجدر بالاتباع وإعطاء التوجيهات والتعليمات، لذلك فالبشر ميّالون لتتبع حياة بعض الأفراد الذين ينظرون إليهم كنماذج وقدوات.


وبينما يشمل القيل والقال كلاً من الأخبار الجيدة والسيئة، فقد ثبت علميًا أن سماع النميمة السلبية يجعلنا أسعد، فقد أظهرت دراسة حديثة أن الناس يحصلون على متعة في مراكز المكافأة العصبية الخاصة بهم بعد سماع ثرثرة سلبية عن المشاهير.

في المقابل لم يحصلوا على فائدة كبيرة من سماع الثرثرة الإيجابية بغض النظر عن مدى محاولتهم التظاهر بخلاف ذلك.


نحن نحب أخطاء المشاهير لأنها تروق لنا على المستوى العصبي .



لماذا لا نستطيع التوقف؟


من الصعب مقاومة النميمة المثيرة بغض النظر عن مدى محاولتنا، فالنية النبيلة حول التفكير في أعمالنا الخاصة يتم تجاوزها بسهولة عند تحرك رغبتنا لمعرفة حدث ما أو خبر مفاجئ عن شخص آخر.


حسب تعريف دنبار فالثرثرة ليست سلبية بطبيعتها، لكن عالم النفس الاجتماعي روي بوميستر يجادل بأن النميمة السلبية قد يكون من الصعب مقاومتها بشكل خاص بسبب المزايا التطورية التي تأتي مع التعلم عن الأشياء الخطرة على عكس الأشياء الإيجابية أو غير المهددة.


فقد كان من الأهم بالنسبة لأسلافنا أن يعرفوا الشخص الأخطر في المجموعة، من معرفتهم الشخص الجيد على سبيل المثال.


وينطبق الشيء نفسه في الحياة الحديثة، فمن الأكثر إثارة للاهتمام أن يعرف الموظفون سبب طرد زميل في العمل من معرفة سبب تسمية زميل آخر بأنه موظف الشهر.



إذا كان عالم النفس التطوري روبن دنبار على حق "فإن اللغة تطورت من أجل النميمة".

على أي حال نحن بالتأكيد نفعل ما يكفي منها، فقط فكر في عدد الساعات التي تقضيها يوميًا في الثرثرة والتحدث عن من فعل ماذا لمن.

تقوى يوسف

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات تقوى يوسف

تدوينات ذات صلة