لا أدري متى أو من بدأ هذا النوع من التنجيم أو على أي أساس يستند، لكن يبدو أنه صار رائجًا لدى البعض.


فوجئت بصديقة لي تخبرني أن طاقة اسمي هي طاقة جيدة (وهذا من المفترض أنه يقاس بناء على الأحرف وتشكيلها ....)، في البداية اعتبرتها مزحة وأخبرتها بأن هذه الطاقة لم تنفعني، لكنها ردت بثقة وجدية ربما لأن اسمي لا يتوافق مع اسم والدتي أو مع برجي!


كان حوارًا غريبًا وكانت قناعة غريبة، وبعيدًا عن كونها تصدقها أو تتسلى بها فقط، يثير هذا الموقف سؤالًا داخل رأسي، لما نخترع الأساطير والأكاذيب ونصدقها؟ أو على الأقل نحبها ونستأنس بها؟



في الماضي البعيد جدًا


قديمًا لم تكن البشرية تمتلك فهمًا متقدمًا للعلم أو أي أدوات لفهم العالم، مما دفعها لاستخدام الكائنات الخارقة، والتأثيرات الخارقة للطبيعة كالنجوم والأرواح الشريرة.


تحول مياه النيل لدم


لماذا نصدق الأكاذيب؟!22410622474630236


مثلًا عندما نتحدث عن أسطورة تحول مياه النيل لدم، فهذا يعكس بوضوح ظاهرة طبيعية في مصر ألا وهي لون نهر النيل الضارب إلى الحمرة في أوج فيضانه في الصيف، والذي يرجع إلى جسيمات حمراء في الأرض أو ربما كائنات حية دقيقة.


بنات نعش


لماذا نصدق الأكاذيب؟!3998425966498087


ومن النهر للسماء، عندما نتحدث عن أسطورة كوكبة بنات نعش العربية، فالقصة تعود إلى رجل عربي اسمه "نعش" قُتل على يد رجل اسمه سهيل، كان له سبع بنات، وأقسمن على السير بنعش أبيهن حتى يأخذن ثأره، سهيل توارى عن صدر السماء، لتذهب الشبهات والشكوك تجاه النجم البريء "نجم الجدي".

أما لفهم هذه الحكاية فانظر إلى الجنوب الشرقي من السماء، سترى نجمًا اسمه "سهيل" يظهر ببريق مشوب بالحمرة، أما كوكبة بنات نعش فتقع في الشمال، تدور كل ليلة حول نجم "الجدي".


بهذا تجد أن الأساطير تحمل شيئًا من المنطق الذي قد يبررها.


يقول جان جاك روسو: (كيف يمكن للإنسان أن يتخذ الشك عقيدة ويلتزم بها عن حسن نية ؟ هذا ما لا أستطيع فهمه . هؤلاء الفلاسفة الشكاكون إما لا وجود لهم وإما هم أشقى سكان الأرض . الارتياب في أمور تهمنا معرفتها وضع شاق بالنسبة للعقل البشري ، لا يتحمله طويلا يلزمه الاختيار فيفضل أن يخطئ على ألا يؤمن .)


أعتقد أن هذا القول العبقري لجان روسو يلخص رحلتنا كبشر على متن هذا الكوكب، تلك الأفهام والتفسيرات التي ربما لا تصلح اليوم إلا كقصة أو كنكتة أو في أحسن أحوالها كفيلم خيال أسطوري كانت ذات يوم تفسيرًا مقدسًا للعالم، لأن الإنسان ببساطة يرفض جهله فيفضل أن يصدق كذبة على أن يبقى عالقًا بالشك.


وقد يبدو هذا مفهومًا لحد بعيد، لكن لماذا وحتى اليوم ومع كل التقدم العلمي والثقافي والحضاري، لا زلنا نملك الرغبة والقدرة على كتابة الأساطير والأكاذيب وتصديقها؟


أكاذيب اليوم


في عمري الصغير هذا أجدني عاجزة عن عد الأساطير والخرافات والإشاعات والأكاذيب التي مرت على جيلي.


ابتداء من قصة ربما ترجع لأكثر من ١٠ سنوات حين حاولت صديقة أخرى لي "ليست بالجاهلة أو السطحية" اقناعي بأن علي مقاطعة شركة "Pepsi"، لأنها اختصار لشعار صهيوني: "pay every penny to save israel"

والتي تعني: ادفع كل بنس لإنقاذ إسرائيل

أو أن كوكاكولا عند عكسها وقلبها وربط حروفها ثم فكها تعطي: لا مكة لا محمد، ولهذا علي مقاطعتها أيضًا.


أو قصة تلك الفتاة التي رمت المصحف من والدتها لتتحول لمسخ، ولست بحاجة لإخبارك كم كانت هذه القصة خبرًا وموضوعًا دسمًا لمعلماتي داخل المدرسة لأيام، لنحظى بدروس وعظ لا تنتهي.


وقد يمتد الأمر لتكذيب ناسا وصعود الإنسان للقمر وكروية الأرض.


وقد يذهب البعض للاتجار والتكسب، كالمتسترين بغطاء الدين المختصين (بإخراج الجن من الجسد)، أو العرافين والدجالين الذي أخبر أحدهم صديقة ثالثة أيام الثانوية أنها عبقرية وستحصل على معدل ٩٩ في الثانوية وأن الشخص الذي أهداها تلك الهدية يكيد لها ويكرهها، ولم تعطني فرصة للتشكيك بأقواله، ولم أجرؤ حتى لا أظهر كحاسدة ضيقة العين، لا أعرف قصة تلك الهدية لكنها بالتأكيد حصلت على معدل أقل بكثير من ٩٩.

لو صدق ذلك التنبؤ لما نسيه أحد ولاستشهدنا به في كل حين، لكن في كل مرة تفشل التنجيمات يستطيع هؤلاء الدجالين الفرار والمتابعة.


ومن الخرافات التي لا تخفى اليوم، تكذيب وجود فيروس كورونا والتشكيك باللقاح، والإيمان بأساطير تحويل لمسخ أو اللعب بشيفرة وراثية، ولو أتى هذا الرفض من عالم باحث لكان منطقيًا لكنه ينطلق من أفواه الجميع، الكبار والصغار المتعلمين والجهلة، وكحال كل الأساطير لإعطائها شيئًا من القداسة وتصعيب محاربتها، دائمًا ما يضاف لها شيء من الطابع الديني ونظرية المؤامرة.


لماذا نحارب الأكاذيب؟


يمكن قبول الأساطير أو على الأقل احتمالها، حين تكون للمتعة وإمضاء الوقت، لكن ماذا عساك تفعل حين تتحول لأذى، وحين يصير حاملها خطرًا على البشرية.


المؤسف أننا حتى لا يمكننا نسب الخرافة لطائفة أو فئة، إنها تخص البشرية جمعاء، ترددها فئة من كل طائفة سواء كانوا مؤمنين أو ملحدين، حقوقيون أو دكتاتوريون، جهلة أو مثقفون، في داخل كل منا شيء يميل لتصديق ما لا يصدق.


مهما ادعى إنسان اليوم امتلاكه لعقل يعمل بناء على التفكير المنطقي والاستنتاج العقلاني والحكم المجرد، لا زال ذلك العقل متأثرًا بالعاطفة منقادًا للولاء ومسايرة المجتمع، أو ربما يدوس على المنطق والعقلانية عمدًا لتحقيق مصالح سياسية أو اجتماعية.


والسؤال الآن ما هو الشيء الذي تعرفه حقًا على وجه اليقين ؟!



مرجع: الخرافة مقدمة قصيرة جدا

تقوى يوسف

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

أشكرك رَوِّيَة على رأيك 🌸

إقرأ المزيد من تدوينات تقوى يوسف

تدوينات ذات صلة