إن قوة الفكر مريعة و مخيفة إن كانت تستمدٌ من الوالدين، و من ثم يكون مصيرها التزمت و الانغلاق.
أعودٌ و أسرحٌ بالذاكرةِ الى ذكرى تعود الى نحوِ الإحدى عشرَ عاماً، عندما كٌنا نعود الى المنازلِ، نفترقٌ الطرق عند نقطة، نحنٌ و أولادٌ الجيرانِ الذين اعتدنا على مسابقتهم الى المنزل من الحديقةِ المٌجاورةِ للمنزل، يتسارعٌ و يضغطٌ قلبي صدري بدقاتٍ سريعةٍ، تضايقُ، فأشعرٌ بأن قفصي الصدري ضاق بي ذرعاً و حتى أنه لو كان الأمرٌ بيده لخلع نفسهٌ مني و خرجَ مع أنفاسي المتثاقلة من فمي، و لسانٌ حاله يلعنني، فكنتٌ أرى أنني كلما تألمت فهذا يعني أنني أسرعٌ و أنا من سيفوز بالسباق في نهايةِ المطافِ، فأسرعٌ أكثر. و هذا السباق الأخير لا يكونٌ إلا بدايةً لسباقٍ آخر أكثر دمويةٍ لي و لأخوتي الثلاثة، على الحمام، لأن منزلنا بطبيعة الحال ليس إلا ممراً ضيقاً بغرفتين و حمامين، مقارنةً بالشارعِ الإسفلتي العريض، المليء بالمداخلِ و المخارجِ و الطرق المختصرةِ. فلا يستطيعٌ سوى واحدٍ أو اثنان في حالتنا، -إذ كنا جلداً على عظم- المسابقة في حيزٍ ضيق. و في الحمام، نستحمٌ كلنا، - نعم، نحنٌ الثلاثةٌ في العراء العفوي من كل شيء- حيث لا تتوق أنفسنا، إلا لحمامٍ ساخن، تتلسعٌ جلودنا تحتهٌ بانتشاء و أقدامنا المٌنهكةِ التي -تسرب الرملٌ المزعجٌ بين أصابعها الناعمة-من الركضِ في سباقاتٍ عبثيةٍ طوال اليوم.
في الحمام أتذكرٌ أني كُنتٌ أنا من يضبطُ حرارةَ الماءِ و يٌنظمٌ الحركةَ فيه، - بصفتي أنا الابنة الكبرى- حيثُ أن الماءَ يبدأٌ ينسابٌ على الأصغر و يروحٌ ببطء الى الأكبر و هكذا، و كنتُ أضبطها على حرارةٍ عالية تصلٌ و تقاربٌ حرارة النار بالنسبة لنا كأطفالِ لم يتجاوز الواحدَ منا الثامنة، فكنتٌ على سبيلِ المعاونةِ و الترويحِ، أقولٌ لهم عن المبدأ الذي درسناهٌ في العلوم، و هو مبدأ توازن الحرارة، و بأننا إن لسعتنا الماء الآن فليس إلا بسبب إختلافِ درجات الحرارة الإبتدائية لجلودنا و إن جلسنا هناك وقتاً كافياً نٌقاوم هذا فسيتعودُ جلدنا على هذا و سنتاوزن حرارياً، و لن نشعرٌ بهذا الألمِ بعد مٌدةٍ من الزمن. فالماءٌ الساخنٌ ضروري، كانت ماما تقول، لأنهُ ينفضُ الجلد الميت عنا، و ينظفنا أكثر.
فكنا في الليل، ننامٌ بجلودٍ حمراء، محترقةٍ مٌهترئة.
لم يكن شيئاً محورياً، كان تفصيلاً صغيراً في حياتنا كأطفال، أكثر من عادي، و لعل معظمكم بل كٌلكم، عاشَ هذا التفصيل الجميل و الذكرى الحٌلوة كقطعةِ سكر. لكنني اليوم، عندما أختلي بنفسي و أفكر. أرتعب من فكرةِ، الأفكارِ الموروثةِ التي قد تكون أبدية. فنحنٌ البشرٌ نستمدٌ لونَ العينان و لون البشرةِ و الشعر، و خشونةِ الصوت أو رقتهِ، تطاولِ بنياننا، النحيف أو البدين، المتكورِ أو المنحوتِ، الغمازةِ التي تتوسدٌ الخد، في الوجهِ الطويل أو المستدير، و الشامةُ الفاتنةٌ أسفلَ الفمِ بقليل، أو على عظامِ الرقبة البارزةِ أو الغائصةِ في تكوينك الروحي و الجسدي. و هكذا الأفكارٌ الموروثةِ مثلٌ السماتِ الموروثةِ و لكنَ الفرق أن الأخيرةٌ نفتحٌ أعيننا فنراها و قد تجسدت و استحالت واقعاً فينا، أما الأفكارٌ الموروثة فقد تبنى و تتجسد و تستحيل، عاماً على عام، و قد تكونٌ مقصودة تتلقنها تلقيناً من الوالدين، فأين ألتفت تراها ملئ عينيك من فكرك، و قد تكون غير مقصودة، تتشكلٌ أشكالها في عقلك الغير واعي، فتراها فكرةً من أفكارك و طبعاً من طباعك، على حين غرة. من دونِ إدراكٍ، أو وعي حقيقي و دراسةً للفكرة.
و مع شديد الأسف و الأسى، لا نستطيعَ أن نقول أن كل الأفكارِ التي نأخذها من الأهلِ، صحيحةٌ، سواءً أكانت مقصودةً أم لا، فهناكَ كمٌ هائلُ من الإهتراء و الحرقة الروحية، يمكنُ أن تسببهٌ لنا تلك الأفكار المشوهةِ بالتلقين و التي تشوبها الكثير من أفكارِ العادات و التقاليد، و كلها أصلاً ضعيف، مشقوق، مخرمٌ من جميع الجهات، لا نستطيعَ أن نخلق لها حجةً مٌشابهةً لحجة التوازن الداخلي، في المثال لفكرةٍ تمدُ بظلالها في عقلي اللين الطفولي القابلِ للتشكيل، و لحسن الحظ تقف دوماً الأفكار الفطرية حصناً منيعاً أمام تلك الأفكارِ المجردة، و التي تراها تقف حاجزاً أمام الحب و استطاعةِ كوننا نحنٌ، جميعاً واحداً على نفس الكفةِ الواحدةِ من الإنسانيةِ، يجمعنا التشابه أكثرُ من الاختلاف. فتعرضنا لآلامٍ و ننام أخيراً بأرواحٍ مٌهترئة.
المشكلةُ هنا، أن من البعضِ من يخافُ أن يثورَ على سيلِ الأفكارِ هذا، يخاف من المجابهةِ و التغيير و كأن حلقةً من سلسلةٍ طويلة سيختلٌ نظامها إن تغيرَ منها إحداها و ذلك هو ما يحدثُ فعلاً، فنقطةٌ من البياضِ تكفي لتبديدِ السواد. و من البعضِ من يتكورٌ و يتحوشُ الظلامٌ فيهِ فيصبحٌ متعصباً لا يسمحٌ لأفكارِ الفطرةِ الحقيقية و النقيةِ أن تشقُ طريقها اليه فتنضبٌ و تجف. فيصبح من الشبه مستحيل أن تغير هذا الفكرِ، فمحاورةَ متعصبٍ تتطلبُ صبراً عظيماً و معجزةً حقيقية.
و على عكسِ المشكلة، الحل جميلٌ، رقيق و لطيف وسهل كإدارة المقبض الى الجهةِ الأخرى في الحمام، حيث الماءٌ الباردٌ هو من ينساب. فمحاورةٌ صادقةٌ مع الذاتِ و تقبلٌ مرن لآراء الآخرين و مقارنتها، و قراءةِ الكثير من الكتب و الشفافية مع الذات، تمكنك من الوصولِ الى ارتقاء عالٍ و كمٍ يفي بالغرضِ من الوضوح سيظل في جعبتك الروحية سنيناً قادمة.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات