-هل كان هناك شيْ حقيقي في كل هذا ؟ -انت كنت حقيقي, هذا ما جعل الناس يريدون مُشاهدتك.



في عام 1998 وبعد صدور الفيلم الشهير the truman show , تم تسجيل عدد من الحالات في العيادات النفسية , والتي كانت -في وقتها- تعتبر غاية في الغرابة , حيث كان المرضى يعتقدون أن هناك كاميرات تلاحقهم وتصور كافة تفاصيل حياتهم , وبأنهم أبطال برامج تلفزيونية ولديهم جمهور عريض ,الفيلم لمن لم يشاهده يحكي قصة شخص يكتشف في النهاية انه هو وبيته وعائلته واصدقاؤه ومدينته وكل ما حوله هو جزء من استوديو كبير مزود بكاميرات تبث للمشاهدين حياة هذا الشخص بكل تفاصيلها , وقد تمت تسمية اعراض الحالات السابق ذكرها ب " متلازمة ترومان" نسبة الى هذا الفيلم.


لاحقا هذا الإستغراب من وجود حالات كهذه اصبح يتلاشى ,في الفترة التي لاقت فيها برامج "تلفزيون الواقع" رواجاً ضخماً عند الناس , وانتشر بعدها مصطلح "مشاهير تلفزيون الواقع" الذين لطالما وصفهم الجمهور بالفارغين والتافهين , ومع هذا كان الناس يتابعون تفاصيل حياتهم "الفارغة" بنهم ,بل واصبحت اخبارهم تتصدر العناوين الصحفية العريضة اشباعا لهوس الجماهير , ولعل اشهر هؤلاء بالطبع "كيم كارداشيان" واخواتها, وهناك باريس هيلتون , نيكول ريتشي , نادية سليمان ,وصدق او لا تصدق , عزيزنا " دونالد ترامب " الذي يشغل الان اكبر منصب في العالم .


الان , لو قارنا هذا السيناريو الذي حدث في فترة الاستياء من تلفزيون الواقع , مع ما يحدث الان ,نجد أن الاحداث تتكرر,لكن التكنولوجيا تتغير , والوسيط يتغير , والاشخاص يتغيرون .


ففي الوقت الذي كانت بطولة تلفزيون الواقع تقتصر على فئة معينة من الاشخاص والبقية هم جمهور , الان اصبح الجمهور يمتلك كافة الادوات التي تتيح لهم بأن يكونوا أبطال برامجهم الواقعية ,ولو قارنا مصطلح "مشاهير تلفزيون الواقع" بمصطلح "مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي" لوجدت أن المضمون نفسه الا أن الوسيط اختلف, وأصبح في متناول الجميع.


أنا لا أعلم اذا يمكن أن يُشخّص الأمر على أنه عرَض نفسي ,الا انني لا استطيع الا ان اربط الموضوعات ببعضها , واستشعر التقارب والتشابه ,أعني ما الذي يجعل شخص فعليا يؤمن ويصدق بشكل هوَسي ان هناك اشخاص تنتظر منشوراته , ابتداء ب"صباح الخير" وانتهاء ب "تصبحون على خير" ويوثق كل شي بينهما,يشارك بالصوت والصورة قهوته, منزله,مشاويره, رحلاته,مقتنياته, لباسه ,طعامه,شكله, انفاعلاته, افكاره ومعتقداته وكل شيء كل شيء على الاطلاق , أنا متأكدة اننا جميعا شاهدنا على السناب شات مثلا شخص يصور قدميه اثناء المشي , ولا يكتفي بالثواني المتاحة بل ويعيد تصويرها مرارا ومرارا ! أنا لا ابالغ .


فماالذي يدور في عقله عندما يشارك شيء شخصي فارغ بل ويعيده مرارا وتكرارا ؟! , هل هناك تفسير آخر سوى انه فعلا يؤمن انه شخص مهم ولديه جمهور ,لا يهم أكان احد مشاهير ال social media فعلاً ولديه متابعين بالالاف , او كان شخصا عاديا جمهوره هو عائلته واقرباؤه وابناء الجيران, هنا لا بد أن أعبر عن انزعاجي الشديد لكلمة followers التي تطلق على المتابعين في عالم التواصل الاجتماعي بدلا من مصطلح ابسط كviewers!! مثلا , فعندما يقرر شخص ان يضغط الزر الذي يتيح له أن يشاهد محتواك , هو الان "following you" , شي ما مشابه لتأثير الكاميرا التي تتبعك باهتمام اينما ذهبت.


الهوس هو نفسه , الفكرة لا تختلف, لذلك تجد القائمين على هذه المواقع في تطوير مستمر لاشباع هذه الفكرة, فكرة جمهور المتفرجين,الذين يتابعون بشغف وحب أو حتى بكره وغيرة , لا يهم ! ,المهم انهم موجودون,ففي تطبيق السناب شات مثلا تستطيع أن ترى عدد المشاهدات ,وتفاصيل المشاهدين ,بل ويزودك بخاصية تتيح لك ان تكتشف ما اذا كنت مهما بالدرجة التي تجعل جمهورك يخزن هذا المحتوى على اجهزتهم الخاصة ,وهذا مشابه ايضا لفكرة seen او read في الفيسبوك والواتساب وغيرهما.ولربما هذا يفسر ظهور تعليقات الشخص في الصفحات المختلفة وجميع انشطته على الصفحة الرئيسية عند اصدقاؤه في الفيسبوك ,ولو ركزت قليلا لوجدت العديد من المحادثات الخاصة اصبحت على العلن ,ومفتعلة جدا كما لو ان اصحابها مستشعرون وجود "جمهور" يتابع كل كلمة تكتب وكل صورة وكل حدث.


لعلها غريزة فطرية طبيعية , أن يكون الانسان محط الأنظار , وأن يكون مثالياً بدافع أن هناك من ينظر اليه باستمرار , أوليست هذه فكرة متأصلة في عقيدتنا أن هناك من يتبعنا ويراقبنا ويسجل كل اعمالنا عن اليمين وعن الشمال ؟ , لكن العالم اصبح فوضويا لدرجة أن الرقيب اتسع ليصبح جمهورا عريضا علينا أن نظهر له في أبهى حلة ؟!انا لا أعلم , أنا لا استطيع الا أن اعبر بالكتابة عما اشعر به,


في النهاية , يا جمهوري العريض أقول لكم في حال لم أتواصل معكم قريبا :


good afternoon, good evening and goodnight !


ألسنا جميعا مريضون ؟!



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ريهام محمود

تدوينات ذات صلة