رمضان الذي كان في كل عام تأخذني ذاكرتي الى رمضان الذي كان منذ سنين
في كل عام في رمضان، تأخذني ذاكرتي الى رمضان الذي كان منذ سنين , الى ذات الرمضان كل مرة ,واستحضره بكل تفاصيله,اتحسر كيف تغير رمضان كل سنة من بعده, كما يتحسر طاعن في السن على رفاقه الذين مضوا في الطريق.
رمضان الذي يحاصرني بدفئه , عندما كنت في الخامسة من عمري,و شجعتني والدتي أن أصوم "صومة العصفورة" ,لاستشعر قليلا التغيير الرمضاني الجديد,واستعد للصيام فترة أطول في السنة المقبلة .أخبرتها أني ٍساكمل صيامي مثلهم, ابتسمت تحفيزا لي وهي متيقنة أنني سأستسلم قريبا.
أما أنا فشعرت بسعادة بالغة أني أصبحت من "فريق الكبار" في المنزل, متباهية بذلك أمام أختي وأخي الصغيرين.وأنا ارى فرحة والدي الكبيرة بهذا الحدث الصغير , حتى أنني أتذكر "مشوارنا" أنا وهو الى دكان الجار ليشتري لي مكافآت من ما لذ وطاب من الحلوى ,ويقتل بداخلي كل شعور بالاستسلام في اللحظات القليلة قبل الإفطار.
يومها خبأت جائزتي ككنز عند سريري,ورحت امشي ذهابا وايابا في الغرفة استرق لها النظر بلا صبر , ويشجعني أن أصبر أن التلفزيون الأردني الان يبث قراءة من الذكر الحكيم ما يعني أنني على بُعد دقائق من تناول كنزي الشهي.
كنت على ضآلة حجمي وتفكيري أشعر انني الحدث الأهم في المنزل وقتها.ويُغذّي غروري الطفولي مفاخرة أبي بأني أكملت صيام أغلب الشهر امام أقربائنا , ويعزز هذا سؤال العم أبو حمد " كم عمرك يا عمو" لأجيبه وللمرة الأولى ولربما الاخيرة بدون خجلي المعتاد وتلعثمي وبصوت مرتفع "خمسة"!.
الان أنا أكبر, لا أحب أن أفكر في عدد السنين التي تفصلني عن برائتي تلك,الا أنني لا انفك أتذكر ذاك الرمضان دوما,وشعوري أن العالم اصبح اكثر تعقيدا يملؤني بالكآبة,لأن الأشياء البسيطة لم تعد كافية لإسعادنا واشعارنا بالرضا, يحزنني الان أن رمضان تغير ,أصبح مستهلكا كصورة بتصميم رديء كتب عليها "رمضان كريم" وامتلأت بها جروبات العائلات , التي حلت مكان "صالون الدار" في بيت الجد والجدة.
رمضان الان مليء بإعلانات المواد الاستهلاكية , وعروض المطاعم, والجوع , الشعور الذي يفترض أن نشارك الفقير فيه- في هذا الشهر على اقل تقدير-, حل مكانه التخمة والشبع الفاحش.
ولعل أكثر ما يشعرني بتغير رمضان هو التلفاز, ابتداءً بالنشرة الاخبارية , اتذكر في رمضان الذي كان ,في النشرة الاخبارية التي لم تخلو من الاخبار البشعة , الا انها لا تقارن مع كوارثنا الان,حادث سير متعمد تصفه المذيعة بالمروّع يقاطع سير أمي نحو المطبخ ,لتقف مطولا أمام التلفاز بعيون مستديرة وحزينة , تسير بعدها الى اكمال واجباتها وهي تتمتم ب لا حول ولا قوة الا بالله , وبأن الدنيا " أخر زمن" ويا ليته يا أمي كان آخر الزمن , الزمن استمر يا أمي وجلب لنا العجائب,الان الموتى هم ارقام تتناقلها قنوات الاخبار المسيّسة كما يقرأ متشائم صفحة الأبراج , بسرعة ودونما إهتمام,حوادث القتل موثقة في "الفيسبوك".وصورة لجثة مضرجة بالدماء تعلوها "ساد فيس" لا تخرج قبل أن تكتب "يرحمه الله" لتحرك اصبعك دون شعور باتجاه المنشور الذي يليه , صورة لطبق "ورق العنب" ما يثير شهيتك للطعام متناسيا "يرحمهم الله " سريعا.
في رمضان الذي كان , كنا ننتظر سنة بعد سنة جزءاً جديدا من مسلسل النقد الاجتماعي "مرايا" , ومسلسلات التاريخ الاسلامي ,وابتهالات قبل المغرب للامام "النقشبندي " مولاي اني بباك .
الان سنة بعد سنة , نستغرب كيف تستمر شركات الإنتاج التافهة بانتاج جزء جديد من "باب الحارة" , المحقون ببوتوكس الممثلات ووصلات شعرهن المبالغ بها , وشوارب ممثليه المزيفة, وبطولات العربي المزعومة ضد الانتداب تارة , وزوجاته الكثر تارة أخرى."يا باطل" !
ووسط هذه الاسفافات , ملاذك الوحيد في شهر الروحانيات هو البرامج الدينية , في رمضان الذي كان , درس ديني ل "نسيم أبو خضير" في التلفزيون الأردني , بصوته الهادئ يخبرك عن منافع الصدقة , والصلاة في وقتها وتهذيب النفس بالصيام والاعمال الصالحة, الان الشيء الوحيد المشترك والذي لم يتغير في واقع البرامج الدينية هو سؤال للمفتي " يا شيخ معجون الاسنان يفطر؟" .
ما عدا ذلك , تنقسم البرامج الدينية في رمضان بين "عدنان ابراهيم" وهو ينفخ فقاعات صابون اعلامية في المساء , ليرد عليه الاخرون في الصباح ويختم كلا الفريقين حروبهم وتبادل الاتهامات في كل حلقة بفقرة قصيرة عن أن الاسلام دين المحبة والكلم الطيب,وفي "ميمعة" التكفير والتخوين والتنفير , يشدك استغرابا نوع جديد من البرامج الدينية , هو برامج الشيوخ الشباب ال"cool" الذين يسافرون لتصوير برامجهم في جنان الأرض , في مناطق لم تكن تعلم انها موجودة لفرط جمالها , ويخبروك أن التأمل والتفكر والتدبر في جمال الكون , وابداع الخالق هو غذاء الروح الذي يدفعها للسمو والارتقاء, أنت الذي تضع في بداية كل شهر مبلغا صغيرا في علبة حليب فارغة-ليسهل عليك فتحها لاحقا في آخر الشهر- , على أمل أن تدفعه لأحد شركات السياحة التي تنظم رحلات جماعية بفنادق ثلاثة نجوم الى اسطنبول وشرم الشيخ.
التغيير هو سُنّة الحياة , لكن على الحياة أن تكون أقل قسوة وتتغيربسرعة أقل,ما زلت في العشرينات لأشعر بهذا الكم من الغربة والحنين للماضي , لربما أنا "دقة قديمة" وعلي أن اتغير كثيرا لأواكب هذا العالم المجنون.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
معكِ حق صديقتي.. هذا العالم مجنون