إن الحكايات المسمومة تفسد المخيلة، وتقتل الروح الإبداعي والوجدان،
وضع أحدهم حكاية ضمن تراث الأدب اليوغسلافي، تقول أن ثمة راعيًا بسيطًا يساعد الفقراء دون حساب، إلى أن وجد نفسه في نهاية المطاف فقيرًا معدمًا، فراح يرعى خرافه في صمت، ثم فجأة نشب حريق في الغابة وكان ثعبانًا صغيرًا عالقًا بين النيران لكن الراعي تمكن من إنقاذه، فأصرَّ الثعبان على أخذ هذا الراعي وتقديمه لأبيه الملك ليحصل على مكافأته، وفي طريقه إلى المملكة طلب الثعبان الصغير من الراعي ألا يوافق على أخذ المال أو الكنز وإنما يطلب عوضًا عن ذلك أن يتعلم لغة الحيوان ويتمكن من فهمها جميعًا، وقد كان..
ولمّا تمكن الراعي من فهم لغة الحيوان أخيرًا، سمع أحدهم يخاطب الآخرعن كنز مدفون أسفل الشجرة، فبدأ يحفر إلى أن حصل عليه، وحمله إلى زوجته التي كانت توبخه دائمًا على تبديده وإسرافه للمال.. وذات يوم علم الزوج من الحيوان أن زوجته ستنجب له طفل، فذهب إليها فرحًا، لكن الزوجة تفاجئت بعلمه فهي لم تخبر أحدًا بعد، ثم أصرّت إصرارًا شديدًا على معرفة كيف وصل إليه هذا الخبر.. ولمّا كان الثعبان الملك قد حذر الراعي من عدم إفشاء هذا السر(أنه يفهم لغة الحيوان) وإلا سيموت، فقد وجد الراعي نفسه في مأزق إما أن يخبر زوجته ويموت وإما أن يكتم السر ويتحمل الويلات من زوجته، وبينما يعمل على تجهيز تابوته الذي سيدفن داخله، حضر إليه فرخ صغير يهزأ منه لأنه لا يقدرعلى زوجته، وكان الأولى أن يوبخها على إصرارها عوضًا عن اختياره إفشاء السر ثم الموت.. فسمع الراعي منه ووجد حديثه مقنعًا وراح يوبخ زوجته في نهاية الأمر.
كانت هذه الحكاية تروى قديمًا على مسامع الأطفال لتعلمّهم وتربيهم والأكثر تمتعهم، لكنها وحين تحولت بمرور الوقت وتطور التكنولوجيا إلى وجبة مسموعة ومرئية يشاهدها الأطفال ضمن سلسلة كرتونية، ترجم هذا المشهد الأخير الذي يوبخ فيه الراعي زوجته، إلى صورة رجل يحمل عصا لإسكاتها، فلا يكتفي بتوبيخها كلامًا وإنما أيضًا بضربها. والآن أتساءل، إذا كانت الحكاية وسيلة للتعلم والتمتع في آن فما القيمة من حكاية تُربي على العنف؟ وإلغاء لغة الحوار ليحل محلها لغة أخرى عدوانية؟
إن الحكايات المسمومة تفسد المخيلة، وتقتل الروح الإبداعي والوجدان، وتربي الصغار على قيم غير سوية، ويمكنها أن تجعل من الجريمة والعنف والخطأ صورة نمطية وشيء تقليدي يحدث ولا عيب في أن يحدث، وهذه الحكاية تخبرنا في تكوين يبدو ممتع وجميل أن الوسيلة الأكثر فعالية لإسكات الزوجة وكبح إصرارها هو الضرب والتوبيخ، فيكبر الطفل الذي تلقى هذا النمط في أول عهده وفي ذهنه هذا التصور المشين عن كيفية التعامل مع الزوجة في حال خالفت الزوج في شيء..
ونحن نتابع الصغار ويهمنا دائمًا أن يكون كل ما يحصلون عليه في صالحهم وسلامتهم، وإذا كان الهدف من الأدب للناشئة هو المتعة والقيم التربوية، فلابد من مراجعة هذه المواد ومتابعتها مسبقًا قبل التسلل إلى وجدان الطفل ووعيه بل وكامل عالمه، وكما نحرص على منحهم الوجبات الغذائية النافعة ومنعهم من الضارة، كذلك نحميهم من المواد الفاسدة مرئية كانت أو مسموعة حتى وإن كانت ممتعة أو تبدو في ظاهرها جميلة ومسلية.
أما كتّاب هذا الجنس من الأدب وهو ليس باليسير، فمسئوليتهم أولًا وقبل كل شيء مراعاة حساسية هذا العالم قبل اختراقه!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات