خلَّف هذا لديّ شعور اللحظة المبتورة من منتصفها، لحظة توقفت عندها ذاكرتي طويلًا وانتظرَت أن تكتمل.







أشعر أن مستوى تكيُفي مع الكتابة يتطور بشكل ملحوظ، لا تزال الأصوات تزعجني من حولي بطريقة ما وأشعر بقدرتها الفائقة على قطع وتشتيت الأفكار، غير أنني تعلمت أخيرًا أن أواصل الكتابة تحت أي ظرف، ثمة التزامات وثمة قناعة أخرى ظهرت مؤخرًا بعد طول الانتظار لعدة أشياء، تتلخص في أن الحياة تسير بغض الطرف عما نترقبه، ونتوقعه داخل أدمغتنا منها، وأن الداخل لا يحرك الخارج طالما أن هذا الداخل فردي، ولا يفيد الجمع الخارجي في شيء، وطالما أنه لا يدخل ضمن لائحة القوانين المنظمة له.




المرحلة الأولى: خطة دفاعية


بدأت كورونا ولم يصدق عقلي واستمر متشبثًا باعتقاده لعدة أشهر كنت خلالها أندفع بقوة لصخب الخارج، أترك كل شيء في مقابل حفل غنائي سخيف، أكتشف سخافته في المنتصف كعادتي مع أي شيء آخر، أتورط ثم أكتشف، سيكون لذلك علاقة بكورونا أيضًا التي لم أصدقها إلى أن تورطت معها. بدأت الأخبار تنتشر، الناس تتكلم لكن لا حراك، الجميع يواصل يومه كما اعتاد أن يواصله، لا ألوم عليهم لم أكن أعرف كيف يتصرف الواحد في موقف كهذا، أنت تواجه المجهول هاهنا، وقد كان ذلك مشتركًا بيني وبين الجميع، جميعنا لم نكن نعرف. لم أنكر الوباء، ربما فقط لم أصدق في تبعاته، ورأيته طيفًا عابرًا مثل أنفلونزا موسمية، خطة دفاعية مؤقتة ستسقط بمرور الوقت وارتفاع الأهوال.


استمرت محاولات الكتابة خلال ذلك، ربما اقتصرت أغلبها على إنتاجات وظيفية تواكب الأوضاع الخارجية، قبل أن تشتد التوترات العامة ويزداد القلق، أرسل لي رئيسي في العمل السابق كتب ومصادر موضوعها الأوبئة وتطوراتها عبر التاريخ، وصولًا إلى محطتها الأخيرة، هنا حيث نضع جميعنا أرواحنا على رؤوسنا وننتظر أن يأتي ليخطفها ويطير بعيدًا، نورس شرير وغير مرئي.


المرحلة الثانية: صخب داخلي


بدأت سلسة متوالية من الفقد، وقد أخذت هذه السلسلة في التشكل تدريجيًا كدائرة أقف في منتصفها، ثم استحالت الدائرة، إلى حبل مشنقة! .. موتى في كل مكان يتوالى سقوطهم بطريقة آلية، ولتكتمل الحبكة لم يكن موتهم نتيجة لإصابتهم بكورونا. كان موت عادي، أو ربما كانت وسائله فقط ما يمكن تسميته بالعادي، أما ما عدا ذلك فلا. كان شرهًا إلى درجة لا يكتفي معها بواحد أو اثنين، هذا إلى جانب وفيات كورونا يجعل الأمور تختلط أكثر في رأسي، صخب داخلي لا أجيد التعامل معه، وكان الوضع تجسيدًا حيًا لآية قرآنية خارج سياقها قرأتها سابقًا من سورة إبراهيم: "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت". لم أفسر هذا الوضع كتابةً ولم أحاول سرده حتى، تركته وتركت الأشياء تستمر، مثلما يحدث عادة في حالة انفجار بركان، لا أحد يقترب.


المرحلة الثالثة: أهلًا بالكورونا!


بدأت كورونا تعرف طريقها إلى منزلنا، تسللت على مهل، وكان ترتيبي بين إصابات منزلنا –وحده- رقم ثلاثة بعد إصابة أمي وأختي الصغرى، حتى هنا لم أكن أصدق في خطورة الأمر، ولا حتى بقوة أعراضه ومدى الآلام المرافقة، تعامل سطحي مع مسألة شديدة الخطورة أعترف ولا مبرر لما حدث، ندمت فيما بعد.


شعرت ليلتها –حين أصبت- بوخز غير مألوف بالجهة اليسرى من الأنف، ثم بدأت الأعراض تتوالى، ألم شديد في الرأس تسبب في حالة أرق استمرت 48 ساعة متواصلة لا أستطيع خلالها فعل أي شيء حيال هذا الألم حتى الأدوية فقدت قيمتها أمامه، غفوت أخيرًا من شدة التعب، ثم حلمت بألم رأسي يزداد إلى درجة شعرت معها أنها ستنفجر، واستيقظت مجددًا خلال دقائق، كان عذابًا أنت لا تعرف إن كنت ستنجو أم أنك تعيش فصلك الأخير والذي لن تتمكن من كتابة شيء حول نهايته بنفسك. أعراض جديدة أكبر من أن تعود إلى أنفلونزا موسمية، كنت أشعر أن جسدي يتقلص على طريقة المحقق كونان حين دست العصابة في فمه المصل فانتقل من جسد سينشي كودو الشاب الوسيم إلى كونان في جسده الصغير.


المرحلة الرابعة: كتابة العادي


دفعتني هذه الفترة إلى كتابة أشياء غريبة، في الحقيقة شجعتني لكتابة العادي بل والتافه من الأشياء، كتبت بلغة عامية يفهمها الجميع، أروي مواقف عادية يعيشها الواحد ولا يكترث بالوقوف عندها، ليست مهمة إنها تحدث فقط لتمرير الوقت لا أكثر! كتبت أيضًا أشياء بلا قيمة ونشطت لساعات على الفيسبوك، كنت أحارب الصمت داخلي.. كنت أخاف أن يتغلل كل شيء أو أن أتلاشى داخله.


انقطاع ثم اتصال متقطع


الكتابة تحت وطأة كورونا تتطلب نوعًا من اللامبالاة، أن تستمر في العزف بينما السفينة تغرق. هناك من نجح في ذلك طوال الوقت، بينما وقفت أنا مشدوهة بالموقف، اتصال.. فانقطاع.. ثم اتصال متقطع هذا ما حدث مع الكتابة، كنت قد وضعت أربعة إلى خمسة مشاريع خاصة لأعمل عليها بالفعل لكن دون خطة محددة، وكنت أبحث إلى جانب ذلك عن كتب تساعدني على تجاوز الموقف برمته، أو حتى التكيف معه، قرأت لنجيب محفوظ ثم انتقلت إلى فيكتور فرانكل وكان ذلك كافيًا ساعدني فيكتور على التخلص من حالة قلق داخلي، الحياة داخل معسكر أوشفيتز وما فعلته النازية مع اليهود، لم يختلف كثيرًا عما فعلته كورونا بنا. كان علينا في الحالتين أن نبحث عن المعنى من داخل المشهد.


أنجزت من القائمة التي وضعتها للكتابة ثلاثة أفكار وتركت ما تبقى إلى أن يشاء الله، كان من بينها موضوع حول العزلة، أعددته على مراحل في شكل نصوص متقطعة، ثم أطلقت سراحه حين شعرت أخيرًا أنه جاهز لمهمته.



مرحلة انتقالية


كانت فترة انتقالية تخص العمل، يتوسطها مسافة فارغة إلا من محاولات تطوير المهارات، كان العالم يتضاءل وكنت أشعر أنه سيطوينا بين كفيه متى شاء، وأنها مسألة وقت فقط، لكنني كنت قد اقتنعت خلال ذلك بفكرة متماسكة تمكنت وحدها من الصمود في وجه كل ما يحدث، وهي أن على الإنسان أن يستمر في العمل-أي عمل- وأن يتحمل مسئولية وجوده على أفضل ما يمكنه فعله، بغض النظر عما ستؤول إليه الأمور، لأنه لا يملك إلا راهنه، ولا يملك إلا أن يجعل الأشياء تستمر من خلاله هو وحده، ليس عليه أن ينتظر الخارج، ويطيل النظر في عينيّ المجهول.



اللحظة المبتورة


مرت سنة خاطفة مثل لقطة بفلاش كاميرا، ليس كما يفعلون في الدراما حين يكتبون مرت سنة فنشعر معها بمرور وقت طويل. كانت سنة متحررة من وطأة الزمن الثقيل حين يربض ويرفض الحركة له ولأي شيء، مرت سريعًا دون أن يشعر أحد. خلَّف هذا لديّ شعور اللحظة المبتورة من منتصفها، لحظة توقفت عندها ذاكرتي طويلًا وانتظرت أن تكتمل، لكن هذا لم يحدث، أخذت الطرق في التشعب وانفصلت العلاقات والروابط بين كل الأشياء. كتبت:


شيء ما تغير

كأنما صارت غربة بيننا

فاصلة

طريق

نهر طويل

وجسر لا أعبره.


كانت المسافة بيني وبين ما مضى بكل عناصره تمتد. بطريقة ما شعرت أن ثمة قطيعة ستحدث مع الماضي، وسننتقل إلى مرحلة جديدة كليًا. تغيٌّر شامل يحتفظ به التاريخ عادة ضمن نتائج الأحداث الكبرى من حروب وثورات وأوبئة.


هذا ما حدث

لست أدري في أي مرحلة نحن، الوباء لا يزال بيننا في كل مكان، لا يبرح. أزمة نتشاركها جميعًا وليس من المتوقع أن يطرح أحدهم في المستقبل القريب سؤال ما الذي حدث؟ لينتظر من يروي له الحكاية، لكن احتسابًا لسؤال أجيال قادمة يفصلها عنّا مسافة غربة، سنقول وليروي التاريخ عنا أن الحياة قد تعرضت عند لحظة ما لسيل متدفق من الأحداث، سيل جرف معه كل معنى لها، عراها إلا من حماقتها.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ريهام سليمان

تدوينات ذات صلة