قد تتحول أنت إلى عدو نفسك، وقد يتحول العدو إلى النفس.
"ما محبة إلا بعد عداوة".. هل تخيل أول من قال هذا المثل تحقُّقه من خلال معنى مادى ملموس غير ما قصده من مجرد وصف لتبدُّل المشاعر؟
هل فكرت قبلًا أن ذرات التراب التى تهيم حولنا هى أثر من آثار أجدادنا؟ إنه ليس أثر ما عملوه أو أنتجوه، إنه أثر ما كانوه كجسد. فخلايا أجسادهم قد تحللت وذهبت عناصرها الأولية من كبريت وفوسفور ونيتروجين وغيرها إلى التربة، كما انطلقت جزء منها فى صورة غازات فى الهواء. إننا لا نرث ممتلكاتهم وجيناتهم وثقافاتهم فقط ، إننا نرث أيضًا بعضًا من أجسادهم فى صورة عناصر منحلة أولية صارت غذاءً للنباتات تمتصها من التربة، ثم نأتى نحن لنغتذى عليها فتكوِّن جزءًا من أجسادنا.
إن الجسد حينما يموت يبدأ فى الانحلال، فيتلاشى كونه كيانًا مستقلًا منتميًا لصاحبه. ويتفرق بعد ذلك على آخرين، فيفقد هويته تمامًا. وحده الموت هو الذى يفعل ذلك بالجسد.
إننا نظن أن أجسادنا "تمليك" لكنها للأسف "إيجار". إن مصير جسدى هذا بعد سنين تطول أو تقصر سيتوزع على بناء أجساد أناس آخرين، وكذلك حيوانات وحشرات. فإن الموت هو وحده سبب تلاشى انتماء الجسد وضياع هويته واستقلاليته.
دعنا نجنح بأفكارنا؛ لنتخيل اثنين كانا يتعاركان فى ميدان المعركة، وكلاهما سقط صريعًا بجوار عدوه فى الحرب. ولسبب ما تُرِك جسداهما متلاصقين حتى تحللا ولو جزئيًا. فعادت عناصر جسديهما الأوَّلية للتراب. لينمو مكانهما نبات تتغذى جذوره على تلك العناصر. فتتآخى تلك العناصر معًا فى ذلك الكائن الجديد. ليتحول ما كان فى كيانين متصارعين ممتلئين بغضة وتنافر إلى عناصر تشكل جسدًا جديدًا فى تناغم وتناسق رائع. فتتسبب هذه المنظومة فى تحويل "العدو" إلى "النفس". تُرى هل جال ذلك فى خاطر أول من قال: "ما محبة إلا بعد عداوة".
تُرى هل هذا يدحض فكرة القيامة والخلود؟ وإن كان هناك قيامة، فلمن تكون تلك المكونات والعناصر الأولية التى تشاركت فيها أجساد أناس عديدة على مر عصور مختلفة؟ مَنْ مِن الناس تعود فتشكله، ومَنْ تتركه مفرغًا؟!
حسنًا. لنتذكر مثلًا حيًّا يحدث مرارًا وتكرارًا؛ ماذا يفعل الفلاح حينما يزرع أرضه ليحصل على نبات حىّ مزدهر؟ إنه يدفن البذار فى التربة. إن الذى تزرعه لا يحيا إن لم يمت. والذى تزرعه فإنك لست تزرع الجسم الذى سوف يصير بل حبة مجردة. لكن الله يعطيها جسمًا كما أراد. تلك هى الحياة والحياة الأخرى.
(خواطر مقتبسة من روايتى "مرايا خفية".)
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات